دينار الأمة… بين مجدٍ غابر وتشرذمٍ حاضر

بقلم/ ناصر السلاموني
تمتد أمتنا العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، على رقعة جغرافية شاسعة تُعد من أغنى بقاع الأرض بالموارد والثروات الطبيعية. تجمعها لغة واحدة، وعقيدة واحدة، وتاريخ حضاري عريق ضارب بجذوره في أعماق الزمن، وتظللها جامعة عربية واحدة. إلا أن واقعها السياسي والاقتصادي يروي حكايةً مغايرة، عنوانها التشرذم والانقسام والخضوع، لاسيما في ما يتعلق بالنظام النقدي.
ففي حين نجح الأوروبيون، على اختلاف لغاتهم وأعراقهم ودياناتهم، في اعتماد عملة موحدة هي “اليورو”، يتعامل العرب فيما بينهم بما يزيد عن ثماني عشرة عملة رسمية، وكأنهم غرباء يتقاسمون سقفًا واحدًا دون أن يجمعهم بيت واحد.
إن هذا التعدد في العملات لا يدل على ثراء تنوع، بقدر ما يعكس غياب رؤية اقتصادية عربية موحدة. حلمٌ يتكرر في خطابات الجامعة العربية، لكنه يغيب على أرض الواقع، حيث تمضي كل دولة في طريقها وفق حسابات ضيقة ومصالح محلية، وكأن الحلم العربي المشترك قد أصبح من أطلال الماضي.
وفي المقابل، وبينما نتعثر نحن في تنفيذ فكرة السوق المشتركة، نجد أوروبا -بما يزيد على سبعٍ وعشرين دولة- قد نجحت في تجاوز الخلافات الدينية واللغوية، وأرست دعائم وحدة نقدية هي اليورو، وأسست سوقًا أوروبية مشتركة، وألغت الحدود بموجب اتفاقية “شنغن”، بل وأخذت تُخطط لجيش أوروبي موحد، لتصنع من التنوع قوة، ومن الاختلاف انسجامًا.
وإذا عدنا إلى بدايات التاريخ الإسلامي، سنجد أن المسلمين الأوائل تعاملوا في البداية بالدينار البيزنطي والدرهم الفارسي، دون أن يعني ذلك خضوعًا اقتصاديًا، بل جرى استخدام هذه العملات ضمن ضوابط شرعية تنظّم السوق وتحفظ الحقوق. وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية العملة، كما في قوله تعالى: “وشروه بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودةٍ”، وقوله: “ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائمًا”.
وجاء التحوّل الحاسم في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، عندما أمر، في السنة الرابعة والسبعين للهجرة، بضرب أول دينار إسلامي خالص. أُزيحت عنه الرموز الأجنبية، وزُين بشعارات التوحيد، ليُعلن ميلاد سيادة اقتصادية مستقلة، ويُجسد الهوية الإسلامية في أبهى صورها. لم تكن تلك العملة مجرد وسيلة للتبادل، بل كانت راية حضارية خفاقة.
انتشرت بعد ذلك العملات الإسلامية في بلاد الشام والمغرب والعراق والأندلس، وكانت تحمل آيات قرآنية وتصاميم تعكس الروح الإسلامية، تؤدي دورًا سياسيًا وروحيًا لا يقل عن دورها الاقتصادي، وترسّخ حضور الدولة وهيبتها.
ويا للمفارقة المؤلمة! فالأمة التي كانت أول من أنشأ وحدة نقدية شملت ثلاث قارات، أضحت اليوم عاجزة حتى عن توحيد معاملات مالية بين دولها. الشعوب العربية تقف على أبواب المصارف تتعامل بالدولار والريال والدينار والدرهم… بينما الأوروبيون يتنقّلون بين بلدانهم بعملة واحدة، ويخاطبون بعضهم بلغة المصالح، في حين نتلهّى نحن بلغة الحنين.
غياب العملة العربية الموحدة لا يعود إلى قلة الموارد أو ضعف القدرات، بل إلى غياب الإرادة السياسية، واستمرار الانقياد لهيمنة اقتصادية خارجية. بل إن بعض العملات العربية ما تزال مرتبطة بالدولار الأمريكي أو الفرنك الفرنسي، في مشهد يُذكّرنا بعصور الوصاية، وإن تغيرت الوجوه. ومما يبعث على الحزن أن فلسطين، الجرح النازف في خاصرة الأمة، لا تملك حتى الآن عملة خاصة بها، وتُجبر على استخدام الشيكل الإسرائيلي والدينار الأردني والدولار الأمريكي، في مشهدٍ يختزل التبعية والتشظي.
أمام هذا الواقع، تبقى الوحدة الاقتصادية العربية حلمًا يبدو بعيدًا، لكنه ليس مستحيلاً. فالتجربة الأوروبية أثبتت أن الإرادة وحدها قادرة على تحطيم الحواجز، وأن المصالح المشتركة يمكن أن تتفوق على الحساسيات السياسية.
كم نحن بحاجة اليوم إلى أن نستحضر دروس الماضي، عندما كانت العملة رمزًا للهوية والسيادة والقوة، لا مجرد ورقة نقدية. لقد آن أوان استعادة “دينار الأمة”، لا من باب النوستالجيا، بل من باب الفعل والعمل. آن للعرب أن يكفّوا عن عدّ عملاتهم… ويبدؤوا باستعادة قيمتهم.
فهل نحلم بدينار عربي موحد؟
أم نواصل الاكتفاء بالأغاني، والأحلام، والحنين إلى ماضٍ ضيعناه بأيدينا… فخسرنا حاضرنا ومستقبلنا؟