المدن المستدامة في مصر بين الواقع والمأمول

يكتب/ د. اسراء محمد رجب- دكتور الفلسفة في التربية

أصبح التحول نحو مدن أكثر استدامة مطلبا ضروريا لمواجهة تحديات البنية التحتية والتغيرات المناخية . وتعرف المدن المستدامة بأنها تلك المدن التي توفر جودة الحياة لسكانها وتحافظ علي المناخ والبيئة، وتسعي لتحقيق ازدهارا ونموا اقتصاديا واجتماعيا بشكل متوازن. وتمثل المدن المستدامة الهدف الحادي عشر من اهداف التنمية المستدامة في الوصول إلي مدن ومستوطنات بشرية متكاملة وشاملة للجميع وآمنة ومستدامة. تسعي المقالة الحالية إلي القاء نظرة حول التحولات الحضرية وتحديات المدن المستدامة كذلك التعرف علي واقع المدن المستدامة في مصر والنماذج الرائدة للمدن المصرية المستدامة والتحديات، وتقديم مقترحات للوصول السريع والأمثل نحو مدن مستدامة بحلول 2050.

التحولات الحضرية وتحديات التنمية المستدامة

تعد المدن المحرك الأساسي لمستقبل البشرية، حيث شهد عام 2022 وصول سكان العالم إلى 8 مليارات نسمة، يقطن نصفهم بالفعل في بيئات حضرية. ومن المتوقع أن تتسارع هذه الوتيرة لتصل نسبة سكان المدن إلى 70% بحلول عام 2050. تواجه المناطق الحضرية عالميًا أزمة متفاقمة في قطاع الإسكان؛ حيث يقطن ما يقرب من 1.1 مليار نسمة حاليًا في عشوائيات أو مناطق تفتقر إلى المعايير التنموية الدنيا، وسط توقعات ديموغرافية تشير إلى تضاعف هذا الرقم ليتجاوز ملياري نسمة خلال العقود الثلاثة المقبلة.

ويُعزى هذا التدهور إلى الفجوة الهيكلية بين معدلات التوسع الحضري المتسارعة وقدرة الإدارة المحلية على تطوير البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية، مما أدى إلى تكريس نمط “التمدن العشوائي”. علاوة على ذلك، تبرز تحديات بيئية وتخطيطية حادة تتمثل في الزحف العمراني غير المنضبط، وتصاعد معدلات التلوث الهوائي، وانحسار المساحات العامة المفتوحة، مما يؤثر سلبًا على جودة الحياة الحضرية.

تواجه المناطق الحضرية تحديات هيكلية جسيمة تتمثل في اتساع الفجوات الطبقية وتصاعد معدلات استهلاك الطاقة، حيث تستهلك المدن ما يتراوح بين 60% و80% من الطاقة العالمية وتساهم بنحو 75% من انبعاثات الكربون رغم إشغالها 3% فقط من مساحة اليابسة. وتتضاعف هذه المخاطر نتيجة الحساسية العالية للمراكز الحضرية تجاه التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية، مدفوعةً بالتركيز السكاني الكثيف والمواقع الجغرافية الحرجة؛ مما يفرض ضرورة ملحة لتعزيز مرونة المدن وقدرتها على الصمود الاستباقي لضمان تحجيم الخسائر البشرية وحماية المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية.

وعلى الرغم من المكتسبات التي تحققت منذ إقرار أهداف التنمية المستدامة (SDGs) عام 2015—والتي تجلت في مضاعفة عدد الدول التي تبنت استراتيجيات وطنية ومحلية للحد من مخاطر الكوارث—إلا أن المؤشرات الميدانية لا تزال تكشف عن فجوات جوهرية. فعلى سبيل المثال، تشير إحصائيات عام 2022 إلى أن 50% فقط من سكان المدن يحظون بنفاذ ميسر لشبكات النقل العام، مما يعيق حركية المجتمع وكفاءة الاقتصاد الحضري. ويظل تحقيق التنمية المستدامة مشروطًا بإحداث تحول جذري في الممارسات المتبعة لبناء وإدارة الفضاءات الحضرية، بما يضمن استجابة السياسات العامة لمتطلبات النمو السكاني المتسارع وضمان العدالة المجتمعية والبيئية.

واقع المدن المستدامة في مصر:

تشهد مصر في الوقت المعاصر تحولاً جذرياً في فلسفة التخطيط العمراني، حيث لم تعد “المدن الجديدة” مجرد حل للتكدس السكاني، بل أصبحت مختبرات حقيقية للاستدامة. يعتمد واقع المدن المستدامة اليوم على دمج تكنولوجيا “الجيل الرابع” مع معايير الحفاظ على البيئة. يمر واقع المدن المستدامة في مصر بمرحلة انتقالية؛ فالدولة تتبنى بقوة بناء مدن الجيل الرابع (مثل العاصمة الإدارية الجديدة) كركيزة لرؤية مصر 2030، مع التركيز على النقل الأخضر، كفاءة الموارد، وإعادة التدوير، وخدمات ذكية، مدعومًا بـ”أطلس المدن المصرية المستدامة” (مدعوم من البنك الدولي) لتقديم البيانات لصناع القرار، لكن التحديات تكمن في تحويل المدن القائمة ومعالجة مشاكل الإسكان والبنية التحتية العشوائية وضمان أن تكون هذه المشاريع “ذكية” و”خضراء” بالمفهوم العالمي الشامل، وليس مجرد مباني حديثة.

جهود الدولة المصرية والدور المأمول نحو مدن مستدامة: تسعي الدولة المصرية نحو تأسيس وبناء مدن مستدامة وقد خطت بخطي ثابتة وملحوظة نحو تحقيق هذا الهدف المنشود، وتمثل ذلك فيما يلي:

مدن الجيل الرابع: إنشاء مدن جديدة (كالعاصمة الإدارية، السويس الجديدة، رأس الحكمة) ترتكز على التخطيط المستدام والذكاء، وتستوعب النمو السكاني المتوقع.

أطلس المدن المصرية المستدامة: أداة تفاعلية تستخدم نظم المعلومات الجغرافية (GIS) لتقييم الأداء البيئي والاجتماعي للمدن، ومساعدة صانعي القرار لوضع سياسات مستدامة.

تطوير البنية التحتية الخضراء: تحسين شبكات النقل (المترو، المونوريل)، محطات معالجة المياه والصرف الصحي، وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة.

كفاءة الموارد والطاقة المتجددة

الدور المأمول يركز على جعل المدن منتجة للطاقة وليس فقط مستهلكة لها: الطاقة الشمسية: إلزام المباني الجديدة في بعض المناطق بتركيب ألواح شمسية.

إدارة المياه: التوسع في محطات معالجة مياه الصرف الصحي الثلاثية لاستخدامها في ري المساحات الخضراء، مثل محطة “بحر البقر” و”الحمام”.

وحدة المدن المستدامة والطاقة المتجددة: هيئة المجتمعات العمرانية لديها وحدة متخصصة لإدارة مشاريع المدن المستدامة والمشاريع المرتبطة بالطاقة المتجددة.

مبادرات التنمية المستدامة (رؤية مصر 2030): أهداف وطنية تشمل معالجة العشوائيات، تحسين جودة الحياة، وتقليل الأثر البيئي، ما يتطلب التوازن بين التنمية البيئية والاجتماعية والاقتصادية.

برنامج “المدن الخضراء” (Green Cities) ،بالتعاون مع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD)، أطلقت مصر خطط عمل لتحويل مدن قائمة إلى مدن خضراء، ومن أبرزها:القاهرة والجيزة والإسكندرية والسادس من أكتوبر: تشمل الخطط تحسين كفاءة استخدام الطاقة في المباني الحكومية، وتطوير منظومات إعادة تدوير المخلفات الصلبة ومخلفات البناء.

العدالة الاجتماعية وتطوير العشوائيات: لا يمكن لمدينة أن تكون مستدامة وهي تعاني من فجوات اجتماعية. لذا، كان الدور المصري محورياً في: مشروعات “حياة كريمة”: لتطوير الريف المصري ومنع الهجرة غير المخططة للمدن. تطوير المناطق غير الآمنة: مثل (الأسمرات، بشاير الخير، تل العقارب) لتوفير سكن كريم وصحي يضمن استدامة المجتمعات العمرانية.

الوحدة المركزية للمدن المستدامة في سبتمبر 2025، تم إعادة تفعيل الوحدة المركزية للمدن المستدامة بوزارة الإسكان، وهي الجهة المنوط بها وضع المعايير الملزمة للمصانع والمباني في المدن الجديدة لضمان تطبيق “تكنولوجيا الإنتاج الأنظف” والالتزام بالاستراتيجية الوطنية للعمران الأخضر. حيث تهدف رؤية مصر 2030 إلى أن تكون 100% من الاستثمارات العامة في مشروعات خضراء بحلول عام 2030، وهو ما يفسر تسارع وتيرة هذه المدن.

 

نماذج رائدة للمدن المستدامة في مصر

تتصدر عدة مدن المشهد كأمثلة تطبيقية لمفاهيم الاستدامة (الاقتصادية، البيئية، والاجتماعية):

العاصمة الإدارية الجديدة: تُدار كمدينة ذكية بالكامل، حيث تعتمد على نظام عملاق لتدوير النفايات، وشبكة ذكية لإدارة الكهرباء والمياه لتقليل الفاقد، بالإضافة إلى “النهر الأخضر” الذي يعد رئة خضراء شاسعة تتوسط المدينة.

مدينة العلمين الجديدة: تم افتتاح أول مجمع صناعي أخضر بها في أواخر 2024، وهي مصممة لتكون مدينة صديقة للبيئة تعمل طوال العام وليس موسمياً فقط، مع الاعتماد على تحلية مياه البحر واستخدام الطاقة المتجددة.

مدينة المنصورة الجديدة: تُعد أول مدينة مستدامة في منطقة الدلتا، وتتميز بتصميم يراعي حماية الشواطئ من التغيرات المناخية، وتوفر مساحات خضراء واسعة مقارنة بالكتلة الخرسانية.

مدينة باديا (أكتوبر الجديدة): نموذج للشراكة مع القطاع الخاص، حيث تُسوق كأول مدينة مستدامة بالكامل في غرب القاهرة، تعتمد على مفهوم “مدينة الـ 15 دقيقة” (حيث يمكن الوصول لكل الخدمات سيراً على الأقدام).

الركائز الأساسية للاستدامة في المدن المصرية:

لتحقيق مفهوم المدينة المستدامة، تركز الدولة حالياً على خمس محاور رئيسية:

النقل المستدام تشغيل المونوريل، القطار الكهربائي الخفيف (LRT)، والأتوبيس الترددي (BRT) لتقليل الاعتماد على السيارات الخاصة.

إدارة الموارد: التوسع في محطات معالجة مياه الصرف الثلاثية لاستخدامها في ري الغابات الشجرية والحدائق.

الطاقة النظيفة: إلزام المباني الحكومية والجديدة بتركيب ألواح طاقة شمسية وتطبيق معايير “العمارة الخضراء”.

التحول الرقمي: مراكز سيطرة وتحكم (Data Centers) لإدارة المرافق، مما يقلل من الانبعاثات الكربونية الناتجة عن الهدر.

جودة الحياة: زيادة نصيب الفرد من المساحات الخضراء والممرات المخصصة للدراجات والمشاة.

التحديات القائمة والتي يتطلبها الدور المأمول:

رغم الطفرة المحققة، يواجه واقع المدن المستدامة بعض التحديات:

التكلفة الاقتصادية: بناء مدن مستدامة يتطلب استثمارات ضخمة في البداية مقارنة بالمدن التقليدية.

ثقافة السكن: الحاجة لتغيير ثقافة المواطنين للانتقال لهذه المدن والالتزام بمعايير الحفاظ على البيئة (مثل فرصل المخلفات).

الفجوة مع المدن القديمة: هناك تساؤلات حول مدى استدامة المدن القائمة وقدرتها على التكيف مقارنة بالمدن الجديدة المخطط لها. التحدي الأكبر يكمن في كيفية “رقمنة” وتحويل المدن القائمة (مثل القاهرة والإسكندرية) لتصبح أكثر استدامة.

تطبيق المفاهيم العالمية: يرى البعض أن المدن الذكية في مصر قد لا تزال تفتقر إلى التكامل الرقمي الشامل والربط الفعلي بين المرافق كما في المفاهيم العالمية.

مشاكل الإسكان والبنية التحتية: لا تزال هناك تحديات هيكلية تتعلق بتوفير المرافق الأساسية للمناطق السكنية القائمة، مما يعيق التنمية المستدامة.

التمويل الأخضر: الحاجة لزيادة الاستثمارات في المشروعات الصديقة للبيئة.

الوعي المجتمعي: ضرورة تغيير ثقافة المواطن نحو ترشيد الاستهلاك وإعادة التدوير.

التشريعات: تحديث قوانين البناء لتشمل معايير “العمارة الخضراء” بشكل إلزامي.

بوجه عام، تمضي مصر بخطوات ثابتة نحو تحقيق التحول الحضري المستدام، مع التركيز على التخطيط المتطور واستخدام البيانات الحديثة. ومع ذلك، يبقى النجاح مرهونًا بمدى تكامل هذه الجهود مع عملية تطوير المدن الحالية وتحقيق التوازن بين التكنولوجيا والجوانب الاجتماعية والبيئية.

المصادر:

استراتيجية التنمية المستدامة : رؤية مصر 2030 ، http://sdsegypt2030.com/

المدن المستدامة، الأمم المتحدة، https://www.un.org/

مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار- مجلس الزراء، https://idsc.gov.eg/

وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، https://moic.gov.eg/ar/sdg/11

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى