المتحف الإسلامي بالقاهرة.. سجل حضاري يجسد عبقرية الفن عبر العصور

كتبت سوزان مرمر
تحل اليوم الأحد، ذكرى افتتاح متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، أحد أعرق المتاحف العالمية للفن والتحف الإسلامية، الذي افتتح للمرة الأولى في 28 ديسمبر 1903، خلال عهد الخديوي عباس حلمي الثاني؛ ليصبح منارة حضارية توثق الفن الإسلامي وتراثه العريق في مصر والعالم.
الجذور الأولى وتبلور الفكرة
ترجع فكرة إنشاء متحف للفنون الإسلامية في مصر إلى عهد الخديوي إسماعيل عام 1869، ضمن خططه لتحديث القاهرة وإثراء الحياة الثقافية فيها، لكن هذه الفكرة لم تتحقق إلا بعد عقد من الزمن، وتحديدا في عهد الخديوي توفيق عام 1880، حين أسندت مهمة جمع الآثار الإسلامية إلى “فرانتز باشا”، الذي قام بجمع العديد من التحف وعرضها في الإيوان الشرقي لجامع الحاكم بأمر الله؛ لتكون تلك الخطوة الأولى لإنشاء متحف متخصص للآثار الإسلامية.
وفي عام 1903.. افتتح المبنى الحالي للمتحف تحت مسمى “دار الآثار العربية”، بواجهة مستوحاة من العمارة المملوكية، لتكون لوحة فنية بحد ذاتها تعكس التقاليد المعمارية الإسلامية.. وفي عام 1951، تغير الاسم رسميا إلى “متحف الفن الإسلامي”، ليعبر عن طابعه الشامل الذي يضم مختلف الفنون الإسلامية عبر العصور.
الموقع والملامح المعمارية
يقع المتحف في ميدان باب الخلق بالقاهرة، بجوار مبنى دار الكتب القومية، مطلا على شارع بورسعيد، ويتميز بواجهة ثرية بالزخارف الإسلامية المستوحاة من العمارة المملوكية المصرية، ويضم مدخلين، أحدهما في الجهة الشمالية الشرقية والآخر في الجنوبية الشرقية، إلى جانب طابقين رئيسيين؛ الأول مخصص لقاعات العرض ويضم نحو 4400 قطعة أثرية، بينما يحتوي الطابق الثاني على المخازن وقسم ترميم الآثار.
كما تحيط بالمتحف حديقة متحفية تضيف بعدا جماليا وتجربة مختلفة للزائر، إلى جانب مكتبة وقاعات تعليمية للأطفال، لتعزيز الدور التعليمي والثقافي للمتحف ويجعل زيارته تجربة معرفية متكاملة لجميع الأعمار.
كنوز فنية تحكي تاريخ الحضارة
يحتوي متحف الفن الإسلامي على أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل مختلف العصور الإسلامية، بدءا من العصر الأموي مرورا بالعباسي والفاطمي والأيوبي والمملوكي والعثماني، وتضم مقتنياته نماذج نادرة ، من بينها مصحف شريف مكتوب على جلد غزال بالخط الكوفي يعود إلى العصر الأموي، وإبريق برونزي منسوب للخليفة الأموي “مروان بن محمد” آخر خلفاء بني أمية، وقدر من خزف الفيوم يرجع إلى العصر الفاطمي، ودينار ذهبي باسم السلطان المملوكي الظاهر بيبرس.
كما يضم المتحف مفتاحا لباب الكعبة مصنوعا من البرونز والفضة يعود إلى العصر المملوكي باسم السلطان الملك الأشرف شعبان بن السلطان الناصر حسن، ومشكاة من الزجاج المموه بالمينا ترجع للعصر المملوكي باسم الأمير شيخو الناصري، إضافة إلى نسيج حريري عثماني مزخرف بعبارات التوحيد بخط الثلث مكررة في أشرطة متموجة ترجع إلى العصر العثماني يرجع استخدامه ضمن غطاء قبر الرسول أو الستارة الداخلية للكعبة المشرفة، فضلا عن باب خشبي مصفح بالفضة يعود إلى عصر أسرة محمد علي.
وتتسع مجموعات المتحف لتشمل فنونا إسلامية من الهند، الصين، إيران، الجزيرة العربية، الشام، شمال إفريقيا، الأندلس، ومصر، ما يجعله الأكبر عالميا من حيث تنوع المقتنيات الإسلامية المعروضة.
أعمال الترميم والتطوير بعد أحداث 2014
في 24 يناير 2014، تعرض المتحف لأضرار جسيمة جراء انفجار وقع بالقرب من مديرية أمن القاهرة، وألحق ضررا بواجهته وعدد من المقتنيات النادرة، وأعقب ذلك عمليات ترميم شاملة استغرقت سنوات عدة، شملت تطوير البنية التحتية، تحديث منظومة التأمين، وترميم المبنى والمقتنيات، بمساهمة دولية من الإمارات، اليونسكو، الولايات المتحدة وسويسرا، بتكلفة بلغت نحو 57 مليون جنيه.
كما تم زيادة عدد قاعات العرض إلى 25 قاعة، وإضافة 400 قطعة جديدة لأول مرة، إلى جانب تحديث بطاقات الشرح وعرض التاريخ والفنون بطريقة تفاعلية، ما أسهم في جعل تجربة زيارة المتحف أكثر ثراء وجاذبية للزائرين.
ميلاد جديد ورسالة ثقافية متجددة
افتتح المتحف رسميا مرة أخرى في 18 يناير 2017 بحضور السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليعود رمزا صامدا للحضارة المصرية أمام محاولات استهداف التراث الثقافي، ويتضمن مسار الزيارة ترتيبا زمنيا يبدأ بالعصر الأموي، مرورا بالعصور الإسلامية المختلفة، مع قاعات متخصصة للعلوم، الحياة اليومية، النسيج والسجاد، وشاشات كبيرة تسرد مراحل الترميم وقصص العلماء المسلمين تحت شعار “أجدادنا علموا العالم”.
لا يقتصر دور المتحف على عرض المقتنيات الأثرية فحسب، وإنما يسعى إلى تعريف الزائرين بإسهامات المسلمين العلمية والفنية عبر العصور، وإبراز ثراء الثقافة الإسلامية وتقديمها للعالم، ليظل بذلك مرجعا حضاريا وثقافيا ذا مكانة عالمية.
ويبقى متحف الفن الإسلامي بالقاهرة أكثر من مجرد صرح ثقافي، فهو سجل حضاري عالمي يوثق عبقرية الفن الإسلامي، ويحافظ على إرث عريق ممتد عبر القارات، وتمثل زيارته رحلة معرفية في عمق التاريخ الإسلامي، وتجربة تثقيفية تكشف عظمة حضارة أضاءت العالم على مر العصور.



