المستشارة هدى الخضراوي تكتب: الوطن يُبنى حين نُحسن الاختيار
الوطن ليس قطعة أرض نعيش فوقها، ولا مجرد حدود مرسومة على الخريطة، بل هو منظومة قيم، وسلوك يومي، وشعور بالمسؤولية يتجسد في التفاصيل قبل الشعارات. فالأوطان لا تنهض بالهتاف، ولا تُحمى بالكلمات وحدها، وإنما تُبنى حين يختار أبناؤها الصواب حتى في غياب الرقابة.
في أوقات الهدوء، يظهر المعدن الحقيقي للمجتمعات. ليس حين نُجبر على التماسك، بل حين نختار الالتزام طوعًا. فالمجتمع القوي هو الذي يحترم القانون لأنه مقتنع بعدالته، لا لأنه يخشاه. وهو الذي يرفض الظلم حتى لو لم يكن واقعًا عليه مباشرة، ويدرك أن السكوت عن الخطأ مشاركة فيه.
لقد علّمتنا التجارب أن أخطر ما يهدد الأوطان ليس العدو الخارجي، بل التآكل الداخلي. حين يصبح التجاوز أمرًا معتادًا، وحين نبرر الخطأ لأنه “ليس شأننا”، وحين نفقد الحس العام لصالح المصلحة الفردية، يبدأ الوطن في فقدان توازنه ببطء، دون ضجيج.
الوطن لا يحتاج إلى أبطال استثنائيين بقدر ما يحتاج إلى مواطنين عاديين بضمير حي. مواطن يحترم دوره مهما كان بسيطًا، ويؤمن أن كل فعل صغير – كلمة صادقة، موقف عادل، التزام بالقانون – هو حجر في بناء كبير. فالأوطان لا تُبنى دفعة واحدة، بل تتشكل عبر تراكم الأفعال اليومية.
إن الاختلاف داخل المجتمع ليس خطرًا، بل الخطر الحقيقي هو غياب الاحترام. فالتنوع في الرأي والفكر والثقافة مصدر قوة، إذا أُدير بوعي ونضج. أما حين يتحول الاختلاف إلى صراع، والرأي إلى تخوين، فإن النسيج المجتمعي يبدأ في التمزق، ويضيع الهدف الأكبر: بقاء الوطن قويًا ومتزنًا.
الوطنية الحقة لا تعني إلغاء العقل، ولا تبرير الخطأ باسم الانتماء. بل على العكس، حب الوطن يقتضي النقد المسؤول، والحرص على الإصلاح، والوقوف في صف الحقيقة حتى لو كان الطريق صعبًا. فالمجتمعات التي تتقدم هي تلك التي تسمح بالمراجعة، وتتعلم من أخطائها، ولا تخشى الاعتراف بالتقصير.
كما أن بناء الوطن لا يقتصر على المؤسسات وحدها، بل يبدأ من الأسرة، ومن المدرسة، ومن طريقة حديثنا مع بعضنا البعض. يبدأ من احترام الوقت، والصدق في العمل، وحفظ الحقوق، وعدم التعدي على المال العام، والإيمان بأن القانون وُجد ليُحترم لا ليُتحايل عليه.
وفي زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتشابك فيه التحديات، يصبح الوعي المجتمعي ضرورة لا رفاهية. وعي يدرك أن الشائعة قد تهدم ما لا تهدمه الأزمات، وأن الكلمة غير المحسوبة قد تزرع فتنة، وأن المسؤولية لم تعد حكرًا على موقع أو منصب.
الوطن لا يُقاس بما نأخذه منه، بل بما نقدمه له. لا بما نطلبه، بل بما نتحمله من أجل استقراره. وحين يفهم كل فرد أن له دورًا، وأن هذا الدور مؤثر، مهما بدا محدودًا، تتحول المجتمعات من حالة الانتظار إلى حالة الفعل.
فالوطن، في جوهره، ليس سلطة فقط، ولا شعبًا فقط، بل علاقة متبادلة تقوم على الواجب قبل الحق.
وحين نُحسن الاختيار… نُحسن البناء



