لماذا صومال لاند الآن ؟!!!!

 

بقلم/ ناصر السلاموني

في توقيت بالغ الحساسية، يطفو ملف «صوماليلاند» إلى السطح مجددًا، ليس باعتباره كيانًا محليًا يبحث عن اعتراف دولي فحسب، بل بوصفه حلقة جديدة في سلسلة تحركات كبرى تستهدف إعادة رسم خرائط النفوذ في القرن الإفريقي والشرق الأوسط. والسؤال المنطقي الذي يفرض نفسه: لماذا الآن؟ ولماذا يجري الدفع بالاعتراف بـ (صوماليلاند) تحديدًا، رغم أن انفصالها المعلن يعود إلى عام 1991، بينما لم تُمنح الكيانات الأخرى، مثل( بونتلاند) أو (جنوب الصومال)، المسار ذاته، رغم أنها جميعًا وردت في خرائط وتقسيمات قديمة عُرفت باسم مخطط( برنارد لويس)، وخطة (عوديد ينون) الإسرائيلية عام 1982؟!

الإجابة لا تنفصل عن الجغرافيا ولا عن السياسة. فـ(صوماليلاند) تمتلك ما لا تملكه( بونتلاند) ولا (جنوب الصومال): موقعًا مباشرًا وملاصقًا لخليج عدن، وقربًا حاسمًا من مضيق( باب المندب)، البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، والشريان الحيوي للتجارة العالمية وقناة السويس. هذا الموقع وحده كفيل بأن يحول الإقليم من كيان منسي إلى ورقة استراتيجية ثمينة، متى قررت القوى الكبرى تحريكها في التوقيت المناسب.

التحركات الأخيرة لا يمكن فصلها عن رؤية أوسع تشكلت منذ عقود داخل دوائر صنع القرار الأمريكية والإسرائيلية، تقوم على تفتيت الدول الكبيرة إلى كيانات أصغر وأكثر هشاشة، يسهل توظيفها سياسيًا وأمنيًا. هذه الرؤية، التي عبّرت عنها بوضوح خرائط (برنارد لويس)، وخطة (عوديد ينون)، لم تكن يومًا حبرًا على ورق، بل مشروعًا مؤجل التنفيذ، ينتظر اللحظة والظرف والبيئة المناسبة. ومع تصاعد الأزمات في المنطقة، من( العراق إلى سوريا وليبيا واليمن)، باتت هذه الخرائط أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى.

وفي القلب من هذا المشهد، يبرز الدور الأمريكي – الإسرائيلي بوصفه المحرك الأساسي. فالإدارة الأمريكية وعلى رأسها دونالد ترامب، لم تُخفِ انحيازها الكامل للمشروع الصهيوني، بدءًا من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مرورًا بمنح الجولان السوري المحتل لإسرائيل دون مقابل، وصولًا إلى دعم سياسات فرض الأمر الواقع في المنطقة. هذا النهج لم يكن استثناءً، بل تعبيرًا صريحًا عن رؤية ترى في التفكيك وإعادة التشكيل وسيلة لضمان التفوق الإسرائيلي طويل الأمد.

القضية الفلسطينية تمثل جوهر هذا المشروع. فمع إصرار مصر على رفض مخططات التهجير، وتمسكها بموقف سياسي وأخلاقي يحول دون تصفية القضية الفلسطينية، اصطدمت إسرائيل بحائط صد حقيقي. وعندما فشلت محاولات فرض التهجير عبر معبر رفح، رغم ما أُثير من ضغوط وإشاعات وتهديدات، انتقلت تل أبيب، بدعم أمريكي، إلى البحث عن بدائل أقل كلفة سياسيًا، وأكثر قابلية للابتزاز.

هنا ظهرت( صوماليلاند) بوصفها الخيار الأنسب: كيان غير معترف به دوليًا، يبحث عن الشرعية بأي ثمن، ويمكن إغراءه بالاعتراف والدعم مقابل أدوار وظيفية خطيرة. وفي هذا السياق، جرى تداول سيناريوهات تتعلق باستعداد الإقليم لاستقبال الفلسطينيين مقابل الاعتراف به، وهو طرح – حتى وإن قُدّم في إطار تسريبات أو جسّ نبض – يعكس طبيعة العقلية التي تُدار بها الأزمة، ويكشف حجم الضغوط المسلطة على الكيانات الضعيفة.

ولم تكن( إثيوبيا )بعيدة عن هذا المشهد. فقد سبقت الجميع بتوقيع اتفاق يتيح لها منفذًا على البحر الأحمر عبر (صوماليلاند)، في خطوة تعكس طموحها للتحول إلى قوة إقليمية ذات حضور بحري، وتمنحها أوراق ضغط إضافية في محيط شديد الحساسية. هذا الاتفاق، حين يُقرأ مع ملف سد النهضة، ومع محاولات إعادة تشكيل التوازنات في البحر الأحمر، يوضح أن ما يجري ليس تحركات منفصلة، بل أجزاء من لوحة واحدة.

إن الإصرار (الأمريكي – الإسرائيلي) على الدفع بهذه المسارات، رغم ما تحمله من مخاطر تفجير المنطقة، يكشف عن هدف استراتيجي أبعد من الاعتراف بكيان أو إقامة علاقات دبلوماسية. الهدف الحقيقي يتمثل في تهيئة البيئة الإقليمية لتنفيذ مشروع( إسرائيل الكبرى)، عبر إضعاف الدول المركزية، والتحكم في الممرات البحرية، وتفريغ غزة من سكانها، تمهيدًا لإعادة توظيفها ضمن مخطط (أمريكي – إسرائيلي) أوسع، لا مكان فيه لحقوق الشعب الفلسطيني ولا لاعتبارات الأمن القومي العربي.

ختامًا، فإن ما يحدث في (صوماليلاند) لا يمكن عزله عن غزة، ولا عن باب المندب، ولا عن سد النهضة، ولا عن خرائط التقسيم التي وُضعت منذ عقود. هو إصرار واضح على تنفيذ المخططات مهما تغيرت الأدوات، ومهما تبدلت العناوين. وبين هذا الإصرار، تبقى يقظة الدول، وفي مقدمتها مصر، ووعي الشعوب، هما خط الدفاع الأخير في مواجهة مشروع لا يرى في المنطقة سوى ساحة مفتوحة لإعادة الهندسة، ولو كان الثمن تفكيك الأوطان وتشريد الشعوب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى