رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن مريم ابنة عمران ، عليها وعلى ابنها أفضل الصلاة والسلام

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن مريم ابنة عمران ، عليها وعلى ابنها أفضل الصلاة والسلام

بقلم / المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف

مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي

رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين

يقول الله تعالى في محكم آياته (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) يوسف 11 ، ويقول سبحانه (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )الاعراف 176 ، وقال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (33 ) :(37) آل عمران

ونتعرض من خلاله هذه الايات ،لقصة مريم ابنة عمران ، عليها وعلى ابنها أفضل الصلاة والسلام ،هذه السلالة الطيبة ، التي اصطفاها الله واختارها من بين خلقه ، حيث قال وقوله الحق (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) آل عمران 33 ،وعمران هذا هو والد مريم عليها السلام ، فقد تزوج عمران امرأة مؤمنة صالحة ، اسمها (حنة ) ، وهذه المرأة حرمت في بداية حياتها من نعمة الولد ، فقيل أنها رأت يوما طائرا يزق فرخا له ، فاشتهت الولد ، فنذرت لله ، إن هي حملت ، لتجعلن ولدها محررا ( أي عتيقا وخالصا من شواغل الدنيا لخدمت بيت الله المقدس ، منقطعا للعبادة فيه ) ، وكأن باب السماء كان مفتوحا ، فقد استجاب الله دعاءها ، وحقق لها أمنيتها ، فأحست بعد أسابيع بعلامات الحمل ، فملأت الفرحة قلبها ، واشرقت الابتسامة على وجهها ، وخرت ساجدة لله تعالى حمدا وشكرا وعرفانا ، وحين رفعت رأسها من سجودها ، قالت : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)آل عمران 35 ، ومرت الأيام والشهور ، والجنين ينمو في بطنها ، والسعادة تملأ حياتها ، وتنتظر اليوم الذي ترى فيه وليدها ، وقد كانت تتمناه ولدا ذكرا ، ليقوم بخدمة بيت الله ، وجاء أوان الوضع ، فوضعت حملها ، وكان المولود أنثى ، قال تعالى (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) مريم 36 ، أي : وليس الذكر كالأنثى في خدمة البيت ، والقيام بشئونه ، والتفرغ لمهامه ،، (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ) وقالوا :أن كلمة مريم تعني (العابدة والمتبتلة ) ثم سألت الله سبحانه وتعالى أن يحفظها من السوء ، وأن يقيها من همزات الشياطين فقالت : (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) ، فاستجاب الله دعاءها ، وتقبل منها نذرها ، قال تعالى (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) ،وفي صحيح البخاري، مسند الإمام أحمد (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ ، إِلاَّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا » . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) ، حملت مريم في لفائفها ، وخرجت بها أمها إلى المسجد ، فسلمتها للعباد المقيمين فيه ، فتنازعوا فيما بينهم ، الكل يريد أن ينال شرف تربيتها ، وثواب كفالتها وخدمتها ، فقال لهم زكريا ، أنا زوج خالتها ، وأنا أحق بالرعاية والكفالة ، فأجابوه : لنقترع ، ثم ذهبوا إلى النهر ، وألقوا أقلامهم فيه ( وهي أنواع من خشب صغير ،عليها اسم كل واحد منهم ) ، فغرقت الأقلام جميعا في قعر النهر ، ما عدا قلم زكريا ، فسلموها له ، قال تعالى (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) آل عمران 44 ،وتمر الأيام ، ومريم تتألق نورا وتتوهج ضياء ، فلما بلغت مبلغ النساء ، ابتنى لها زكريا مكانا ومحرابا ، جعله مأوى لها ، ومقاما تتعبد فيه ، لا يدخل فيه أحد سواها ، وتتفرغ فيه للعبادة والتبتل للواحد الأحد ، قال تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) آل عمران 42 ، 43 ، هكذا كانت مريم تعبد الله ليلا ونهارا ، فهو أنيسها في وحدتها ، وجليسها في خلوتها ، يرزقها إذا جاعت ، ويسقيها إذ ا عطشت ، فمن يتوكل على الله فهو حسبه ، ومن يتوكل على الله يجعل له من أمره يسرا

: فقد كان زكريا عليه السلام يستأذن عليها ، ويزورها بين الحين والحين ، فرأى شيئا غريبا ، قال تعالى (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا) آل عمران 37 ، نعم ، وجد عندها طعاما وشرابا ، بل قالوا : (أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف) ، فغضب زكريا ، وحدثته نفسه ، من الذي يدخل على مريم في محرابها ؟ من الذي يجالسها ؟ من الذي يأتي لها بهذه الفاكهة وهذا الطعام ؟ ،وكأنه يقول : هل هناك أحد غيري يدخل عليها ؟ وتكرر ذلك مرات ومرات ، فسألها : (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا) ، من أين لك هذا؟ ، فتبسمت مريم البتول الطاهرة وقالت :(قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ، فنعم ما قلت يا مريم ، فإن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، فهو واسع الفضل ، وكثير النعم ، وعظيم الإحسان ، فإذا كان العبد في معية الله رزقه الله رزقا حسنا ، وأجرى على يديه الكرامات ، ولكن ، اذكري يا مريم هذه العبارة ولا تنسيها ، لأنك سوف تختبري وتبتلي بها، وأنت قد شهدت بعينيك (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، فسوف يرزقك الله رزقا ليس بالأسباب ولكنه من عند الله مسبب الأسباب والذي يرزق من يشاء بغير حساب ، ظلت مريم في محرابها ، تركت الدنيا ومفاتنها ، وسمت عن الماديات ، وعاشت في معية رب الأرض والسموات ،وهنا أرسل الله إليها سيدنا جبريل عليه السلام ، روح الله ، في صورة إنسان ، حسن الصورة ، تظهر على وجهه ملامح التقوى ،

قال الله تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (16): (36) مريم

أرسل الله تعالى إلى مريم روح القدس جبريل عليه السلام ليهبها غلاما زكيا ، فلما رأى سيدنا جبريل عليه السلام خوفها وجزعها ، هدأ من روعها ، وخفف عنها المفاجأة ، وأخبرها بأنه مرسل من عند الله ، وبأمر الله : (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ) :أي لست بشرا ، ولكني ملك مرسل ، بل وأخبرها في الحال بالمهمة التي أرسل من أجلها : (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) مريم 19، فلما سمعت مريم هذا الخبر ، ارتعدت مفاصلها ، ولم تصدق عينيها وأذنيها ، :(قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) مريم 20 ، والمعنى : كيف يكون لي ولد؟ ، وأنا لم أتزوج بعد ؟، ولست معاذ الله بغيا ولا زانية ؟، وكأنها تقول له ، ما تقوله أنت مخالف لنواميس الحياة ، ومتعارض مع قوانين الكون ، فلا يأتي الولد إلا بعد التقاء الرجل بالمرأة ، ونسيت مريم قولها لزكريا عندما سألها (يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)، فكانت اجابتها له (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ،فكأن الله رزقها هذا الرزق في خلوتها ، لتقول هذه الكلمة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ، لتكون عليها حجة عندما ترزق غلاما بغير زواج ، ولهذا كان رد سيدنا جبريل عليها قاطعا (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) ، فالأمر يا مريم هو أمر الله ، والمعطي هو الله ، والوهاب هو الله ، وما دام الفاعل هو الله ، إذن لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، ويقول للشيء كن فيكون (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) فهذا عند الله أمر سهل ويسير ، لأن الله على كل شيء قدير (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ) أي هذا الغلام ، الذي سوف يولد من غير أب هو آية من آيات الله ، ودليل على قدرة الله ، وعظيم خلقه ، وطلاقة قدرته وهو أيضا (وَرَحْمَةً مِنَّا ) ، نعم فهو رحمة لك يا مريم ، لأنك سوف تكوني أما لنبي الله عيسى ، وتكوني من خير نساء العالمين ، ورحمة للناس ، لأنه سوف يدعوهم إلى عبادة الله ، ورحمة للمعذبين في الأرض من بني إسرائيل ، يخلصهم من الظلم والجهل ، ويستنقذهم من العبودية والقهر (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) أي مقضي به من الأزل ، ومحكوم بمشيئة الله ، ومكتوب في اللوح المحفوظ ، فلا تغيير لحكم الله ولا تبديل ولا تحويل ، فلا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ثم نفخ جبريل في جيب درعها ، فحملت من فورها ، كما تحمل الأنثى من جماع زوجها ، قال تعالى (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ) التحريم 12 ، هكذا أدى سيدنا جبريل عليه السلام الأمانة ، وبلغ الرسالة ، ثم غاب عن مريم ، وتركها في واقع جديد ، وأمر عتيد ، أما هي ، فقد أسلمت أمرها لله ، وعلمت أن في هذا الأمر ابتلاء شديدا ، ومحنة عظيمة ، لأنها تعلم يقينا ، أن الناس لن يصدقونها ، لأنهم ينظرون إلى ظواهر الأمور والأحوال ، ولا يعلمون بواطنها ، بل سوف يشككون في طهارتها ،وعفتها ، وهما أغلى وأشرف ما يملك الإنسان في حياته ، وخاصة المرأة ، فأعظم ما تملكه هو شرفها وسيرتها وتمر الأيام ، وتمضي أشهر الحمل الأولى ، ومريم في معاناة شديدة ، لم تعد تطيق نفسها ، ولا تريد أن ترى أحدا من الناس ولا يراها أحد ، فقررت الخروج من بيت المقدس إلى الناصرة ، وهي مسقط رأسها ، قال تعالى (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ) ، وهناك اعتزلت في بيت ريفي ، مدعية المرض والتعب ،،هروبا من الناس ،ولجأت إلى الذات العلية ، تنتظر قضاء الله فيها ، ولطفه بها ،وحل اليوم الموعود ، وجاء أوان الوضع ، ودنت اللحظة الحاسمة ، ، فخرجت مريم من بيت عزلتها ووحدتها ، تهيم على وجهها ، ولا تدري أين تتجه ، وبينما هي تسير ، جاءها المخاض ، وأحست بآلام الوضع ، فلجأت إلى ظل نخلة قريبة ، قال تعالى : (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) ، فما أشد حزنك يا مريم ، وما أعظم أمرك أيتها البتول الطاهرة حتى تتمني الموت ؟؟، لبثت مريم في مكانها لا تستطيع حراكا ، تكاد تتمزق وتتقطع بدنا ونفسا ، وما هي إلا لحظات قليلة ، حتى وضعت مريم طفلها ( عيسى عليه السلام )

ونواصل الحديث عن مريم عليها السلام : وضعت مريم وليدها ، ونظرت إليه في شفقة وحنان ، وقد فاضت عيناها بالدموع الساخنة ، وتمنت الموت ، بل تمنت أن لم تكن شيئا يذكر ،( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا )، فجاءها صوت رقيق لطيف من تحتها ، ليخفف عنها حزنها ، ويبعث الأمل في تفريج كربها ودفع همومها ، فهذا النداء العذب نبهها إلى أن الله معها ، ولن يتخلى عنها أبدا ، بل وشعرت أنها في حصن حصين ، وملاذ أمين ، ومعية رب العالمين، قال تعالى (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) ، نادها المنادي من ملائكة الرحمن ، أن الله حافظك ،وراعيك ،ولن يتخلى عنك ، وها هو قد أجرى قريبا منك نهرا عذبا ، وجعل بجانبك نخلة مثمرة ، فهزي بيدك الضعيفة هذه النخلة العالية ( عملا بالأسباب ) تساقط عليك رطبا جنيا ، والرطب سهل البلع والهضم والامتصاص ويخفف عنك آلام الولادة ، وهذا كله من دلائل قدرة الله ، وعظمته ، فكلي من هذا الرطب واشربي من هذا الماء العذب ، وكوني قريرة العين ، ومرتاحة البال ، أما ما تخافين منه ، وهو أمر هذا الطفل ، فاجعلي ذلك الأمر لله ، هو سبحانه الذي سوف يتولى الدفاع عنك وعن طهارتك ، وكل ما نطلبه منك يا أيتها الطاهرة البتول هو : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) ، فصومي عن الكلام، وعن حديث الناس ، والله سبحانه وتعالى سوف يتولى الدفاع عنك ، لأن الله يدافع عن المؤمنين ، وسيبرئ ساحتك ،فهو القائل (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، أمتنعت مريم عن الكلام ، ولاذت بحمى الرحمن ، وحملت وليدها عيسى عليه السلام ، ورجعت إلى قريتها وأهلها ، قال تعالى (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ) ، وهنا في قرية الناصرة ، ذاع الخبر وشاع ، وتجمع أهل الفساد من الذين ينتظرون عثرات المؤمنين ، ويهولون من أخطاء الأطهار الموحدين ، فقالوا جميعا ، شامتين مستهجنين مستهزئين ساخرين ، انظروا إلى مريم ، ماذا تحمل بين ذراعيها ؟ لقد سقطت في وحل الخطيئة والرذيلة والزنا ، لقد سقطت من علياء الطهارة والكرامة إلى حضيض الدنس والرذيلة ،انظروا ماذا تحمل بين يديها ؟ أهذه التي كنتم تسمونها مريم العابدة ؟ أهذه التي كنتم تصفونها بالطاهرة ؟ ، قال تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) أي يا من تسيرين على نهج الأنبياء والصالحين ، ما كان أبوك عمران رجلا فاحشا ، ولا كانت أمك من البغايا ، بل كانوا من الأطهار ، فكيف تأتين بهذه الفعلة النكراء ، يا أسفا عليك ، لقد ضيعت أصالة الجذور الطيبة الكريمة ، أما مريم فقد تحملت كل هذا الهجوم العنيف والكلمات اللاذعة الجارحة والمهينة ، فصبرت وتحملت ، وكظمت غيظها ، ثم أشارت إلى الطفل في لفائفه (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ )، (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ، فكانت المفاجأة التي أذهلت الجميع ، ووقعت عليهم كالصاعقة، وأعادت الأمور إلى نصابها ، وأنصفت هذه الأم المفترى عليها ، وأعزت ورفعت أهل الحق ، وأذلت أهل الباطل ،لقد تكلم الطفل الوليد ، ودافع عن أمه ، بل ووصف نفسه وحياته ورسالته وأخلاقه : (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) مريم ،وهكذا برأ الله ساحتها ، وأظهر للناس طهرها وعفتها وشرفها وأنها كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري ( عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِّ – رضى الله عنه – قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ » ، وفي صحيح مسلم (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ » فرضي الله عنهم أجمعين ، وجمعنا بهم في جنات النعيم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى