التربية في عصر الشاشات المفتوحة معركة القيم في زمن السوشيال ميديا  

التربية في عصر الشاشات المفتوحة
معركة القيم في زمن السوشيال ميديا

✍️ بقلم: د. ياسمين شكري

في زمنٍ أصبحت فيه الشاشات تُربي أكثر مما تفعل البيوت، وتحوّلت الهواتف الذكية إلى مصدرٍ للقيم والسلوك قبل الأسرة والمدرسة، تقف التربية أمام اختبارٍ حقيقي. لم يعد الخطر قادمًا من الشارع فقط، بل تسلّل إلى غرف الأبناء المغلقة عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتشكل الوعي بلا رقابة كافية ولا توجيه حقيقي. وبين ضغوط الحياة المتسارعة وتأثير الإعلام الرقمي المتضخم، يبرز سؤال ملحّ: كيف نُربي أبناءنا في زمن «السوشيال ميديا» دون أن نفقد بوصلتنا الأخلاقية؟
التربية عملية أساسية لا غنى عنها للفرد والمجتمع معًا؛ فهي بالنسبة للإنسان وسيلة للحفاظ على النوع الإنساني، وتوجيه الغرائز، وتنظيم العواطف، وتنمية الميول بما يتوافق مع ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه. كما تمثل الأداة الأهم لمواجهة متطلبات الحياة المتغيرة، وضبط السلوكيات العامة، بما يحقق التعايش السليم داخل الجماعة.
وتبرز أهمية التربية للفرد في أن التراث الثقافي لا ينتقل بالوراثة، بل يُكتسب من خلال العيش داخل المجتمع والتفاعل معه. فالطفل لا يستطيع التكيف مع محيطه الاجتماعي إلا عبر عملية تربوية واعية، خاصة أن الحياة البشرية تتسم بالتعقيد والتغير المستمر، ما يتطلب إعداد الأجيال الجديدة لمواكبة متطلبات العصر. وهنا يأتي دور الكبار في نقل الخبرات والقيم، وتطويرها بما يحقق التوازن بين الأصالة والتحديث.
أما حاجة المجتمع للتربية، فتتجلى في الحفاظ على التراث الثقافي ونقله إلى الأجيال الناشئة، مع تنقيته من الشوائب التي علقت به عبر الزمن. فالتربية لا تكتفي بالحفاظ على الموروث، بل تسهم في إصلاحه، مع التمسك بالأصول والثوابت.
الأهداف التربوية بين الثبات والمرونة
تسعى الأهداف التربوية دائمًا إلى الأفضل، ولذلك يجب أن تتسم بعدة مواصفات، أهمها أن تكون عامة وشاملة لمختلف جوانب الحياة، ومحققة للتوازن والتكامل، وغير متعارضة مع الفطرة الإنسانية أو القيم الحقّة. كما ينبغي أن تكون مرنة، قادرة على التكيف مع اختلاف الظروف والعصور، واضحة في فهمها، واقعية في تطبيقها، ومؤثرة في سلوك كل من المربي والمتعلم.
تحديات التربية في عصر التكنولوجيا
أصبحت التربية أكثر صعوبة في زمن تكنولوجيا المعلومات والانفتاح الرقمي الواسع، مع الانتشار الكثيف لمواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما ضاعف من حجم المسؤولية الواقعة على عاتق الأسرة. وفي ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وتداعيات جائحة كورونا، بات التساؤل مطروحًا بإلحاح: هل تقع مسؤولية التربية على الأم وحدها، أم هي مسؤولية مشتركة بين الأب والأم؟
الأم بطبيعتها تتفانى في رعاية بيتها وأبنائها، وتسعى لغرس القيم والأخلاق التي باتت مهددة في ظل ما يشهده المجتمع من مظاهر عنف وانحراف، يغذيها أحيانًا إعلام موجَّه، وأعمال فنية تروّج للعنف والبلطجة، وهو ما ينعكس بوضوح في تزايد الجرائم بين فئة الأحداث، حتى دون سن الثامنة عشرة.
وقد دفع هذا الواقع بعض نواب البرلمان المصري إلى التقدم بمشروعات قوانين لتعديل المادة (111) من قانون الطفل، بهدف تغليظ العقوبات على الفئة العمرية من 15 إلى 18 عامًا، للحد من هذه الجرائم، وتحقيق قدر أكبر من العدالة لصالح المجني عليه، وحماية المجتمع من الانزلاق نحو مزيد من العنف.
الأب شريك أساسي لا غائب
وفي المقابل، لا يمكن إعفاء الأب من مسؤولية التربية بحجة أعباء العمل وضغوط الحياة. فخروجه صباحًا وعودته منهكًا ليلًا لا يبرر الغياب عن الدور التربوي، لأن التربية مسؤولية مشتركة، لا سيما في ظل هذا الانفتاح التكنولوجي غير المسبوق الذي يتعرض له الأبناء ليلًا ونهارًا.
وتقف أمامنا حوادث صادمة، كواقعة طفل دهس أمين شرطة بسيارة والده أثناء المزاح مع أصدقائه، لتطرح تساؤلات مؤلمة: هل وصلنا إلى هذا الحد من الاستهتار؟ وأين ذهبت القيم التي كانت تحكم السلوك وتحفظ المجتمع؟
الأخلاق أولًا… مهما كانت الظروف
إن الانقسام بين أسر تكافح من أجل لقمة العيش، وأخرى تنعم بالرفاهية، لا يجب أن يكون مبررًا للتقصير في التربية. فالأخلاق لا تُزرع بترف الحال ولا تضيع بضيق ذات اليد، بل تُغرس بالقدوة والمتابعة والاهتمام.
إن التربية في جوهرها هي أخلاق قبل أن تكون تعليمًا، وقيم قبل أن تكون أوامر. وإذا لم يتحمّل الأب والأم معًا مسؤولية زرع المبادئ والقيم في نفوس الأبناء، سنكون أمام جيل ضائع، ومجتمع هش، ومستقبل قاتم.

لم تعد التربية ترفًا فكريًا أو مهمة مؤجلة، بل أصبحت قضية وجود تتعلق ببقاء المجتمع وتماسكه. ففي عالم تتسارع فيه المؤثرات الرقمية، وتتراجع فيه سلطة الأسرة أمام الشاشات، يصبح غياب التربية الواعية ثمنه باهظًا، تدفعه الأجيال القادمة في سلوكها وأمنها واستقرارها.
إن بناء الإنسان يبدأ من البيت، ولا يكتمل إلا بشراكة حقيقية بين الأب والأم، قائمة على الحوار والمتابعة والقدوة الحسنة. فالقيم لا تُلقَّن، بل تُمارس، والأخلاق لا تُفرض بالقوة، بل تُغرس بالحب والانتباه والمسؤولية.
وإذا كنا نخشى على أبنائنا من ضياع الهوية وسط زحام «السوشيال ميديا»، فإن الحل لا يكمن في المنع فقط، بل في الوعي، ولا في العقاب وحده، بل في التربية السليمة. فإما أن نُحسن التربية اليوم، أو نواجه غدًا مجتمعًا بلا بوصلة.
انتبهوا لأبنائكم… فالمستقبل يُصنع الآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى