سلسلة خلفاء الدولة الاموية .. عمر بن عبد العزيز

كتبت سوزان مرمر
عمر بن عبد العزيز
ثامن خُلفاء بني أميَّة (حكم 99 – 101هـ / 717 – 720م)
أمِيرُ المُؤمِنين وخَلِيفةُ المُسْلِمين الإمامُ العابد والتقيُّ الزَّاهد أبُو حَفْص عُمَر بن عَبد العَزيز بن مَروان بن الحَكَم بن أبي العاص الأُمَويُّ القُرَشيُّ (61 – 20 رجب 101 هـ / 681 – 15 فبراير 720 م)، المعرُوف اختصارًا بـ عُمَر بن عبد العزيز أو عُمَر الثَّاني لتشبُّهه بسيرة جدِّه لأمِّه الخليفة الرَّاشدي عُمر بن الخطَّاب. هو ثامن خُلفاء بَني أُمَيَّة، والخليفة الثالثَ عشرَ في ترتيب الخُلفاء بعد النَّبيِّ مُحمَّد ﷺ.
عمر بن عبد العزيز
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية
معلومات شخصية
الميلاد
61 هـ (681)
المدينة المنورة، الحجاز، شبه الجزيرة العربية
الوفاة
101 هـ (720) (40 سنة)
دير سمعان، معرة النعمان، الشام
سبب الوفاة
سم
مكان الدفن
إدلب
الكنية
أبو حفص
اللقب
خامس الخلفاء الراشدين
الديانة
مسلم
الزوجة
فاطمة بنت عبد الملك (بنت عمه)
لميس بنت علي بن الحارث
أم عثمان بنت شعيب بن زيان
الأولاد
الذكور:
عبد الملك · عبد العزيز · عبد الله · إبراهيم · إسحاق · يعقوب · بكر · الوليد · موسى · عاصم · يزيد · زيان · عبد الله
الإناث :
أمينة · أم عمار · أم عبد الله
الأب
عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص
الأم
أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب
إخوة وأخوات
الذكور:
الأصبغ · زبان · سهيل · أبو بكر · عاصم
محمد
الإناث:
أم البنين
عائلة
بنو أمية
منصب
الخليفة الأموي الثامن
الحياة العملية
معلومات عامة
الفترة
سنتين 99 – 101 هـ
717 – 720
التتويج
99 هـ، 717م
سليمان بن عبد الملك
يزيد بن عبد الملك
والي المدينة المنورة
الفترة
86 هـ – 93 هـ
التتويج
86 هـ
هشام بن إسماعيل المخزومي
عثمان بن حيان
السلالة
الأمويون
تعلم لدى
صالح بن كيسان
التلامذة المشهورون
توبة العنبري
سياسي، وحاكم، وخليفة المسلمين
اللغات
العربية
ولد عُمر بن عبد العزيز سنة 61 هـ في المدينة المنورة، ونشأ فيها عند أخواله من آل عمر بن الخطاب، فتأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، وكان شديد الإقبال على طلب العلم. وفي سنة 87هـ، ولّاه الخليفة الوليد بن عبد الملك على إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ، فصار واليًا على الحجاز كلها، ثم عُزل عنها وانتقل إلى دمشق. فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة قرّبه وجعله وزيرًا ومستشارًا له، ثم جعله ولي عهده، فلما مات سليمان سنة 99هـ تولى عمر الخلافة.
اتسمت خلافة عمر بن عبد العزيز بالعدلِ وردِّ المظالم التي كان أسلافه من بني أمية قد ارتكبوها، وعزلُ جميع الولاة الظالمين ومعاقبتُهم، كما أعاد العمل بالشورى، واسترشد بالكتاب والسنة بحكمه، فعدّه علماء عصره خامس الخلفاء الراشدين، كما اهتم بالعلوم الشرعية، وأمر بتدوين الحديث النبوي الشريف. استمرت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، حتى قُتل مسمومًا سنة 101هـ، فتولى يزيد بن عبد الملك الخلافة من بعده.
نسبه وأسرته
خلفاء بني أمية، ويظهر عمر بن عبد العزيز في وسط اليسار
هو: أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الأموي القرشي المدني ثم المصري.
والده: هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، كان من خيار أمراء بني أمية، بقي أميراً على مصر أكثر من عشرين سنة. ولما أراد الزواج قال لقيّمه: «اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي، فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح»، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب (وقيل اسمها ليلى).
أمه: أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. ووالدها: أبو عمرو عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، ولد في أيام النبوة وحدّث عن أبيه، وكان طويلاً جسيماً من نبلاء الرجال، ديِّناً خيِّراً صالحاً، وكان بليغاً فصيحاً شاعراً. وأمه: هي جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّة.
وأما جدته لأمه فقد كان لها موقف مع عمر بن الخطاب، فعن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال:
«بينما أنا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يَعُسّ (العُس: تقصّي الليل عن أهل الريبة) بالمدينة إذ أعيا، فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: «يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء»، فقالت لها: «يا أمتاه، أوما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم؟»، قالت: «وما كان من عزمته يا بنية؟»، قالت: «إنه أمر منادياً فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء»، فقالت لها: «يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر»، فقالت الصبية لأمها: «يا أمتاه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء»، وعمر يسمع كل ذلك، فقال: «يا أسلم، عَلِّم الباب واعرف الموضع»، ثم مضى في عسه. فلما أصبحا قال: «يا أسلم، امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها، وهل لهم من بعل؟»، فأتيت الموضع فنظرت، فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها، وإذا تيك أمها وإذا ليس بها رجل، فأتيت عمر فأخبرته، فدعا عمر ولده فجمعهم فقال: «هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه؟»، فقال عاصم: «يا أبتاه، لا زوجة لي فزوجني»، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتاً، وولدت البنت عمر بن عبد العزيز.»
إخوته: كان لعبد العزيز بن مروان (والد عمر بن عبد العزيز) عشرة من الولد، وهم: عمر وأبو بكر ومحمد وعاصم، وهؤلاء أمهم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وله من غيرها ستة وهم: الأصبغ وسهل وسهيل وأم الحكم وزيّان وأم البنين. وعاصم هو من تُكنى به والدته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فكنيتها أم عاصم.
مولده ونشأته
مولده
ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة سنة 61هـ، وقد اختلف المؤرخون في سنة ولادته، والراجح أنه ولد عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين، ولأنه يؤيد ما يُذكر من أنه توفي وعمره أربعون سنة، حيث توفي عام 101هـ.
وتذكر بعض المصادر أنه ولد في حلوان بمصر، وهذا القول ضعيف لأن أباه عبد العزيز بن مروان إنما تولى مصر سنة 65هـ بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير، فولّى عليها ابنه عبد العزيز، ولم يُعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة، وذكر الذهبي أنه ولد بالمدينة زمن يزيد.
نشأته
ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة ونشأ بها، ثم صار أميراً عليها سنة 87هـ
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: «يا أمه، أنا أحب أن أكون مثل خالي»، يريد عبد الله بن عمر، فتؤفف به ثم تقول له: «اغرب، أنت تكون مثل خالك»، وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميراً عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها، فقال لها: «يا ابنة أخي، هو زوجك فالحقي به»، فلما أرادت الخروج قال لها: «خلفي هذا الغلام عندنا (يريد عمر) فإنه أشبهكم بنا أهل البيت»، فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، فقال لها: «وأين عمر؟»، فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلِّماً. وهكذا تربى عمر بين أخواله بالمدينة المنورة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة.
وكان عمر بن عبد العزيز منذ صغره شديد الإقبال على طلب العلم، وكان يحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء، كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة، وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح، زاخرةً بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير، وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب.
وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير، وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ، وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم، وكان يبكي لذكر الموت مع حداثة سنه، فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت: «ما يبكيك؟»، قال: «ذكرت الموت»، فبكت أمه حين بلغها ذلك.
طلبه للعلم
عاش عمر بن عبد العزيز في زمن ساد فيه مجتمعُ التقوى والإقبال على طلب العلم، فقد كان عدد من الصحابة لا يزالون بالمدينة، فقد حدث عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي محمد، كما أمّ بأنس بن مالك فقال: «ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله ﷺ من هذا الفتى».
تربى عمر بن عبد العزيز على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها، فقد اختار عبد العزيز (والد عمر) صالح بن كيسان ليكون مربياً لعمر، فتولى صالح تأديبه، وكان يُلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر عن الصلاة مع الجماعة، فقال له صالح بن كيسان: «ما يشغلك؟»، قال: «كانت مرجّلتي (مسرحة شعري) تسكن شعري»، فقال: «بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟»، فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه. ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: «ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام». وكان يحرص على التشبه بصلاة النبي محمد أشد الحرص، فكان يُتمُّ الركوع والسجود ويخفِّف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبِّح في الركوع والسجود عشراً عشراً.
ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً، ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: «لَمجلسٌ من الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليّ من ألف دينار». وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير: «لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه، ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا». وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، قال عنه الزهري: «كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم».
ومن شيوخه أيضاً سعيد بن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر. ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: «كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به». وذات يوم دخل سالم بن عبد الله على الخليفة سليمان بن عبد الملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّة، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل من أُخريات الناس: «ما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرة أحسن من هذه يدخل فيها على أمير المؤمنين؟»، وعلى المتكلم ثياب سريَّة لها قيمة، فقال له عمر: «ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثيابك هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك».
وتربى عمر وتعلم على أيدي كثير من العلماء والفقهاء، وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين؛ ثمانية منهم من الصحابة وخمسة وعشرون من التابعين.
مبايعته بالخلافة
اقترح الفقيه رجاء بن حيوة الكندي على الخليفة سليمان بن عبد الملك في مرض موته أن يولي عمر بن عبد العزيز، قال ابن سيرين: «يرحم الله سليمان، افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز، وكانت سنة وفاته سنة 99هـ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان منقوش في خاتمه: «أؤمن بالله مخلصاً»».
وتعددت الروايات في قصة استخلاف سليمان لعمر، ومنها ما ذكره ابن سعد في طبقاته عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباً خضراً من خز، ونظر في المرآة فقال: «أنا والله الملك الشاب»، فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب، وهو غلام لم يبلغ، فقلت: «ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يُحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح»، فقال سليمان: «كتاب أستخير الله فيه وأنظر، ولم أعزم عليه»، فمكث يوماً أو يومين، ثم خرقه ثم دعاني، فقال: «ما ترى في داود بن سليمان؟»، فقلت: «هو غائب بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت»، قال: «يا رجاء فمن ترى؟»، فقلت: «رأيك يا أمير المؤمنين وأنا أريد أن انظر من يُذكر»، فقال: «كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟»، فقلت: «أعلمه والله فاضلاً خياراً مسلماً»، فقال: «هو على ذلك، والله لئن ولّيته ولم أولِّ أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده»، ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم، قال: «فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنه ويرضون به»، قلت: «رأيك»، فكتب بيده:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم.»
وختم الكتاب، فأرسل إلى كعب بن حامد صاحب الشرطة أن مُرْ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل إليهم كعب فجمعهم، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: «اذهب بكتابي هذا إليهم، فأخبرهم أنه كتابي ومُرهم فليبايعوا من وليت». ففعل رجاء، فلما قال لهم ذلك رجاء قالوا: «سمعنا وأطعنا لمن فيه»، وقالوا: «ندخل فنسلم على أمير المؤمنين»، قال: «نعم»، فدخلوا فقال لهم سليمان: «هذا الكتاب (وهو يشير لهم وهم ينظرون إليه في يد رجاء بن حيوة) هذا عهدي، فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب»، فبايعوا رجلاً، ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء… قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يريم حتى آتيه، ولا يُدخل على الخليفة أحداً. فخرجت، فأرسلت إلى كعب بن حامد العنسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت: «بايعوا»، قالوا: «قد بايعنا مرة ونبايع أخرى!»، قلت: «هذا أمير المؤمنين، بايعوا على ما أمر به، ومن سمى في هذا الكتاب المختوم»، فبايعوا الثانية رجلاً رجلاً، فلما بايعوا بعد موت سليمان رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: «قوموا إلى صاحبكم فقد مات»، قالوا: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، وقرأت عليهم الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: «لا نبايعه أبداً»، قلت: «أضرب والله عنقك، قم فبايع»، فقام يجر رجليه. وأخذت بضبعي عمر فأجلسته على المنبر، وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه، فلما انتهى هشام إلى عمر قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، أي حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك، فقال عمر: «نعم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، حين صار إلي لكراهتي له».
خطبته الأولى بعد استخلافه
صعد عمر المنبر وقال في أول لقاء له مع الأمة بعد استخلافه:
«أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم.»
فصاح الناس صيحة واحدة: «قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فولِّ أمرنا باليمن والبركة»، وهنا شعر أنه لا مفر له من تحمل مسؤولية الخلافة، فأضاف قائلاً يحدد منهجه وطريقته في سياسة الأمة المسلمة:
عمر بن عبد العزيز أما بعد، فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاضٍ ولكني منفّذ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يُطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم، غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً.
أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه.
أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات…
وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها ﷺ، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً. عمر بن عبد العزيز
ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال:
عمر بن عبد العزيز يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. وإن من حولكم من الأمصار والمدن، فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوالٍ. عمر بن عبد العزيز
ثم نزل. وهكذا عُقدت الخلافة لعمر بن عبد العزيز في ذلك اليوم، وهو يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة 99هـ.
تنظيم الولايات
عندما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كان من أول أعماله إيقاف التوسع في المناطق النائية في أطراف الدولة، ومحاولة سحب القوات الإسلامية من مناطق القتال، وأول أعماله في هذا المضمار كان في القوات التي عُني الخليفة سليمان بحشدها وإنفاذها بقيادة أخيه مسلمة لفتح القسطنطينية، وظلت تحاصرها مدة سنتين لاقت فيها مصاعب كثيرة دون أن تفلح في تحقيق هدفها، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، كتب بقفل مسلمة بن عبد الملك من القسطنطينية، وقد كان سليمان أغزاه إياها برّاً وبحراً، فاشتد عليهم المقام وجاعوا حتى أكلوا الدواب من الجهد والجوع، حتى يتنح الرجل عن دابته فتقطع بالسوق، ولجّ سليمان في أمرهم، فكان ذلك يغم عمر، فلما ولي رأى أنه لا يسعه فيها بينه وبين الله عز وجل شيء من أمور المسلمين ثم يؤخر فعله ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب، وقد وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، فوجه إليهم خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً وحث الناس على معونتهم، فكان الذي وجه إليه الخيل العتاق فيما قيل خمسمائة رأس.
وفي الأندلس ولىّ عمر بن عبد العزيز السمح بن مالك الخولاني، وعهد إليه بإخلاء الأندلس من الإسلام إشفاقاً عليهم، إذ خشي تغلّب العدو عليهم لانقطاعهم من وراء البحر عن المسلمين. غير أن السمح لم ير الانسحاب الكامل من الأندلس، فكتب إلى الخليفة يقول: «إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فاضرب عن ذلك»، وأزال الأندلس عن عمالة أفريقية.
وفي المشرق، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الرحمن والي خراسان يأمره بإقفال مَن وراء النهر من المسلمين بذراريهم، فأبوا وقالوا: «لا تسعنا مرو (قاعدة خراسان)»، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: «اللهم إني قد قضيت الذي عليّ فلا تغزُ بالمسلمين، فحسبهم الذي فتح الله عليهم». وفي جبهة بلاد السند، كتب عمر بن عبد العزيز إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يُملكهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه، فأسلم جيشه والملوك، وتسموا بأسماء العرب، وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل عمر على ذلك الثغر.
وفي أذربيجان، أغار الترك على المسلمين، فقتلوا من المسلمين جماعة ونالوا منهم، فَوَجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة خمسون أسيراً.
وفي سنة 100هـ، أغارت الروم في البحر على ساحل اللاذقية، فهدموا مدينتها وسَبَوْا أهلها، فأمر ببنائها وتحصينها. وفي 101هـ، أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص، وأمر بترحيل أهل طرندة وهم كارهون، وذلك لإشفاقه عليهم من العدو. وأراد أن يهدم المصيصة لتعُّرضها لغارات الروم، ثم أمسك عن ذلك وبنى لأهلها مسجداً جامعاً من ناحية «كفرييا»، واتخذ فيه صهريجاً وكان اسمه عليه مكتوباً، وجعلها مركزاً متقدماً لدرء الخطر عن أنطاكية من غزوات الروم المتكررة.
وكان عمر حازماً شديداً في أخذ الحق والدفاع عنه، وهذا ما تشير إليه رواية ابن عبد الحكم، حيث يذكر أنه عندما أرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز رسولاً إلى ملك الروم، وقصّ عليه قصة رجل أسير في بلد الروم أجبر على ترك الإسلام واعتناق النصرانية، قائلين له: «إن لم تفعل سملت عينك»، فاختار دينه على بصره فسملت عيناه، فأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى ملك الروم وقال له: «أقسم بالله لأن لم ترسله إلي لأبعثن إليك من الجنود جنوداً يكون أولهم عندك وآخرهم عندي»، فاستجاب ملك الروم لطلبه، وبعث بالرجل إليه.
إدارة الدولة
تميزت خلافة عمر بن عبد العزيز بعدد من المميزات، أهمها:
إرساء العدل
كان عمر بن عبد العزيز يرى أن المسؤولية تتمثل بالقيام بحقوق الناس، والخضوع لشروط بيعتهم، وتحقيق مصلحتهم المشروعة، فالخليفة أجير عند الأمة وعليه أن ينفذ مطالبها العادلة حسب شروط البيعة.
وقد أحب الاستزادة في فهم صفات الإمام العادل وما يجب أن يقوم به ليتصف بهذه الخصلة، فكتب إلى الحسن البصري يسأله عن ذلك، فأجابه الحسن:
«الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده؛ يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً، يكتب لهم في حياته، ويدخرهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى وخازن المساكين، يربي صغيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملَّكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله.»
أحبّ عمر أهل البيت وأعاد إليهم حقوقهم، وقال مرة لفاطمة بنت علي بن أبي طالب: «يا بنت علي، والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحبّ إليَّ منكم، ولأنتم أحب إليَّ من أهل بيتي».
ردّ المظالم
«إن الله بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً»
— عمر بن عبد العزيز
«أنثروا القمحَ على رؤوسِ الجبال لكي لا يُقال: جاعَ طيرٌ في بلاد المسلمين»
— عمر بن عبد العزيز
بدأ عمر بن عبد العزيز برد المظالم بنفسه، روى ابن سعد: لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم قال: «إنه لينبغي أن لا أبدأ بأول من نفسي»، فنظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع، فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتم، فقال: «هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب»، فخرج منه. وقد بلغ به حرصه على التثبت أنه نزع حلي سيفه من الفضة، وحلاه بالحديد، قال عبد العزيز بن عمر: «كان سيف أبي محلى بفضة فنزعها وحلاه حديداً».
وكان خروجه مما بيده من أرض أو متاع بعدة طرق كالبيع، فلما استخلف نظر إلى ما كان له من عبد، وإلى لباسه وعطره وأشياء من الفضول، فباع كل ما كان به عنه غني، فبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار، فجعله في السبيل. أو عن طريق ردها إلى أصحابها الأصليين، وهذا ما فعله بالنسبة للقطائع التي أقطعه إياها قومه،
وفاته
اختلفت الروايات عن سبب مرض عمر بن عبد العزيز وموته، إذ تذكر بعض الروايات أن سبب مرضه وموته هو «الخوف من الله تعالى والاهتمام بأمر الناس» كما روي عن زوجته فاطمة بنت عبد الملك، وكما ذكر ابن سعد في الطبقات عن ابن لهيعة.
إلا أنه قد ذكر سبب آخر لموته؛ وهو أنه سُقي السم، وذلك أن بني أمية قد تبرموا وضاقوا ذرعاً من سياسة عمر التي قامت على العدل وحرمتهم من ملذاتهم وتمتعهم بميزات لا ينالها غيرهم، بل جعل بني أمية مثل أقصى الناس في أطراف دولة الإسلام، ورد المظالم التي كانت في أيديهم، وحال بينهم وبين ما يشتهون، فكاد له بعض بني أمية بوضع السم في شرابه، فقد رُوي أنهم وعدوا غلام عمر بألف دينار وأن يُعتق إن هو نفذ الخطة، فكان الغلام يضطرب كلما همّ بذلك، ثم إنهم هددوا الغلام بالقتل إن هو لم يفعل، فلما كان مدفوعاً بين الترغيب والترهيب حمل السم فوق ظفره، ثم لما أراد تقديم الشراب لعمر قذف السم فيه ثم قدمه إلى عمر، فشربه ثم أحس به منذ أن وقع في بطنه. وعن مجاهد قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: «ما يقول الناس فيّ؟»، قلت: «يقولون إنك مسحور»، قال: «ما أنا بمسحور»، ثم دعا غلاماً له فقال له: «ويحك ما حملك على أن تسقيني السم؟»، قال: «ألف دينار أعطيتها وعلى أن أعتق»، قال: «هات الألف»، فجاء بها فألقاها عمر في بيت المال وقال: «اذهب حيث لا يراك أحد». وقيل أنه مات بسبب السل. وتوفي عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لعشر ليال بقين من رجب سنة 101هـ على أصح الروايات، واستمر معه المرض عشرين يوماً، وتوفي بدير سمعان من أرض معرة النعمان بالشام، بعد خلافة استمرت سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وتوفي وهو ابن تسع وثلاثين سنة وخمسة أشهر، وعلى أصح الروايات كان عمره لما توفي أربعين سنة.
واختلفت الروايات على مقدار تركة عمر بن عبد العزيز حين توفي، ولكن الروايات متفقة على قلة التركة أو انعدامها، قال ابن الجوزي: بلغني أن المنصور قال لعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «عظني»، قال: «مات عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وخلف أحد عشر ابناً، وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً كفن منها بخمسة دنانير، وثمن موضع قبره ديناران، وقسم الباقي على بنيه، وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهماً. ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابناً، فقسمت تركته، وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف، ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حَمَلَ في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلاً من ولد هشام يُتصدق عليه».
وصيته لولي عهده يزيد بن عبد الملك
كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك وهو في مرض الموت قائلاً:
عمر بن عبد العزيز بسم الله الرحمن الرحيم،
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك،
السلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإني كتبت إليك وأنا دنف من وجعي، وقد علمت أني مسؤول عما وليت، يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة، ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئاً، يقول تعالى فيما يقول: «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ» فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهول الطويل، وإن سخط علي فيا ويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته، وأن يَمُنّ علي برضوانه والجنة. وعليك بتقوى الله والرعيةَ الرعيةَ، فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلاً حتى تلحق باللطيف الخبير.



