الأمْنُ القَوْمِيُّ المِصْرِيُّ بَيْنَ الدَّاخِلِ المُتَمَاسِكِ وَالخَارِجِ المُتَرَبِّصِ

إعداد : د/ شيماء المتعب
لم يعد الأمن القومي في صورته المعاصرة مفهومًا جامدًا يقتصر على حماية الحدود أو ردع العدوان العسكري، بل بات منظومة مركبة تتشابك فيها الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والمائية والسيبرانية. وفي الحالة المصرية، يكتسب هذا المفهوم خصوصية استثنائية، نابعة من ثقل الدولة التاريخي، وموقعها الجغرافي، وتشابك مصالحها الإقليمية، بما يجعلها دائمًا في مرمى التفاعلات الدولية والإقليمية.
ومن هنا، يبرز سؤال جوهري: كيف تدير مصر معادلة الأمن القومي في ظل داخلٍ متماسك تسعى الدولة إلى تحصينه، وخارجٍ متربص لا يتوقف عن اختبار نقاط القوة والضعف؟ وهل نستطيع الربط والتوازن بين التماسك الداخلى والخارجى ؟فى هذا المقال أريد أن أستعرض على حضراتكم بعض النقاط النقاط الجوهرية التى طالما شغلت المواطن المصرى لمعرفة ما لم يكن يدركه من قبل فى هذا الإطار الموضوعى
أولًا: الداخل المتماسك كخط الدفاع الأول
يمثل الداخل الوطني القاعدة الصلبة لأي تصور حقيقي للأمن القومي. فالدولة التي تمتلك مجتمعًا متماسكًا، ومؤسسات قادرة، وشرعية سياسية، تكون أقل عرضة للاختراق وأكثر قدرة على الصمود أمام الضغوط.
1. تماسك المجتمع وبناء الوعي
لا يُقاس تماسك الداخل فقط بغياب الاضطرابات، بل بوجود وعي جمعي قادر على التمييز بين الخلاف المشروع ومحاولات التفكيك المتعمد. فالحروب الحديثة تستهدف الوعي قبل الأرض، وتسعى إلى ضرب الثقة بين المواطن ومؤسساته، وتحويل الأزمات الطبيعية إلى أدوات تحريض وانقسام.
2. قوة المؤسسات واستمرارية الدولة
تُعد الدولة المصرية من أقدم الدول المركزية في التاريخ، وهو ما انعكس في قدرة مؤسساتها على الاستمرار رغم التحديات. فالمؤسسات المستقرة لا تمنع الأزمات، لكنها تمنع تحولها إلى انهيارات شاملة، وهو فارق حاسم في معادلة البقاء.
ثانيًا: الاقتصاد كجبهة أمن قومي داخلية
لم يعد الاقتصاد ملفًا منفصلًا عن الأمن القومي، بل أصبح أحد أهم ساحاته. فالضغوط الاقتصادية تُستخدم اليوم كأدوات غير مباشرة لإضعاف الدول من الداخل، عبر إنهاك المواطن، وتآكل الثقة في المستقبل، وزيادة الهشاشة الاجتماعية.
وفي الحالة المصرية، يرتبط الأمن الاقتصادي بالقدرة على:
تنويع مصادر الدخل القومي
تقليل الاعتماد على الخارج
حماية الفئات الأكثر تأثرًا بالصدمات الاقتصادية
فكلما زادت قدرة الدولة على الصمود اقتصاديًا، زادت قدرتها على اتخاذ قرار سياسي مستقل.
ثالثًا: الأمن المائي كمسألة وجودية
يحتل الأمن المائي موقعًا متقدمًا في منظومة الأمن القومي المصري، ليس بوصفه موردًا طبيعيًا فحسب، بل كعنصر بقاء حضاري. فالمياه في مصر ليست قضية رفاه، بل شرط حياة واستقرار.
وتتعامل الدولة مع هذا الملف بمنهج متعدد المستويات، يجمع بين الدبلوماسية، والتخطيط التنموي، وبناء القدرات، مع الاحتفاظ بكافة الخيارات التي يكفلها حق الدفاع عن الوجود.
رابعًا: الإعلام والفضاء الرقمي كسلاح صامت
أصبحت المعارك الإعلامية والرقمية أحد أخطر أنماط التهديدات الحديثة، لما لها من قدرة على إحداث تأثير عميق دون إطلاق رصاصة واحدة. فالشائعات، وحملات التشويه، وتزييف الوعي، أدوات فعالة في إنهاك الداخل، وإضعاف الروح المعنوية، وبث الشكوك.
ومن هنا، يصبح الإعلام الواعي والأمن السيبراني ركيزتين أساسيتين في تحصين الجبهة الداخلية، شريطة ألا يُدارا بمنطق الوصاية، بل بمنطق الشراكة مع وعي المواطن.
خامسًا: الخارج المتربص وتعدد دوائر التهديد
تتحرك مصر في محيط إقليمي ودولي شديد الاضطراب، تتداخل فيه الصراعات، وتتبدل فيه التحالفات. وهو ما يفرض على الدولة التعامل مع تهديدات غير مباشرة، تتخذ أشكالًا سياسية أو اقتصادية أو أمنية، دون إعلان صريح للعداء.
وتتمثل خطورة الخارج المتربص في قدرته على استغلال الأزمات، والضغط عبر الملفات الحساسة، ومحاولة فرض وقائع جديدة على الأرض أو في الوعي الجمعي.
سادسًا: المؤسسة العسكرية كعامل توازن استراتيجي
تلعب المؤسسة العسكرية المصرية دورًا محوريًا في معادلة الأمن القومي، بوصفها الضامن الأخير لتوازن الدولة. فامتلاك قوة عسكرية محترفة لا يعني الميل إلى الصدام، بل يمنح الدولة قدرة ردع تمنع الخصوم من التفكير في المغامرة.
وفي هذا السياق، تمثل العقيدة العسكرية المصرية نموذجًا للدفاع الرشيد، القائم على حماية الدولة دون الانخراط في صراعات استنزافية.
معادلة البقاء في عالم متغير
إن الأمن القومي المصري لا يُدار بردود الأفعال، بل برؤية شاملة تقوم على تحصين الداخل، وإدارة الخارج، وبناء توازن دقيق بين القوة والمرونة. فالداخل المتماسك هو خط الدفاع الأول، والخارج المتربص هو الاختبار الدائم لصلابة الدولة.
وفي عالم تتغير فيه طبيعة الصراعات، تبقى الدول القادرة على الجمع بين قوة الدولة ووعي المجتمع هي الأقدر على البقاء، لا بوصفها ساحة صراع، بل فاعلًا مؤثرًا في محيطها الإقليمي والدولي.
يتلخص فى هذا المقال الذى طرحته إلى أن الأمن القومي المصرى يدار ضمن معادلة تحقق قوامها تماسك الداخل وحسن إدارة الخارج وفى عالم تتزايد فيه الصراعات غير المعلنة،تصبح القدرة على الصمود وإدارة الوعى والحفاظ على التوازن والمرونة والقوة شرطا لبقاء الدولة ودورها الإقليمي.



