سلسلة خلفاء الدولة الاموية .. عبد الملك بن مروان

كتبت سوزان مرمر
عبد الملك بن مروان
خامس خُلفاء بني أميَّة (حكم 65 – 86هـ / 685 – 705م)
أبُو الوَليد عَبدُ المَلِك بن مُروان بن الحَكَم بن أبي العاص بن أُميَّة بن عَبدِ شَمس القُرَشيُّ (26 – 86 هـ / 646 – 705 م) الخليفة الخامس من خلفاء بني أمية والمؤسس الثاني للدولة الأموية. ولد في المدينة وتفقه فيها علوم الدين، وكان قبل توليه الخلافة ممن اشتهر بالعلم والفقه والعبادة، وكان أحد فقهاء المدينة الأربعة، قال الأعمش عن أبي الزناد: «كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان». استلم الحكم بعد أبيه مروان بن الحكم سنة 65 هـ الموافق 684م، وحكم دولة الخلافة الإسلامية واحدًا وعشرين عامًا.
عبد الملك بن مروان
أبو الملوك
عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية.
معلومات شخصية
الميلاد
646 (26 هـ)
المدينة المنورة
الوفاة
705 (86 هـ) (60 سنة)
دمشق
الكنية
أبو الوليد
اللقب
أبو الملوك
الديانة
مسلم سني
الزوجة
عاتكة بنت يزيد
ولادة بنت العباس العبسية
أم هشام بنت إسماعيل بن هشام
عائشة بنت موسى بن طلحة التيمية
أم أيوب بنت عمرو بن عثمان
أم المغيرة بنت المغيرة
الأولاد
الوليد، سليمان، مروان الأكبر، عائشة (ولَّادة)
يزيد، مروان، معاوية، أم كلثوم (عاتكة)
بكَّار (عائشة)
الحكم (أم أيوب)
فاطمة (أم المغيرة)
هشام (أم هشام)
مسلمة، محمد، سعيد، عبد الله، المنذر، عنبسة، حمد، الحجاج (أمَّهات غير معْرُوفات)
الأب
مروان بن الحكم
الأم
عائشة بنت معاوية بن المغيرة
إخوة وأخوات
عبد العزيز
محمد
بشر
أبان
عبيد الله
عائلة
بنو أمية
منصب
الخليفة الأموي الخامس
الحياة العملية
معلومات عامة
الفترة
21 سنة 685 – 705
(65 – 86 هـ)
التتويج
685 (65 هـ)
مروان بن الحكم
الوليد بن عبد الملك
السلالة
الأمويون
المهنة
سياسي، وحاكم، وخليفة المسلمين
اللغات
العربية
تسلم عبد الملك بن مروان حكم الدولة الأموية في وقت كانت الفتن والاضطرابات والانقسامات تعصف بها. في الكوفة كان أنصار الحسين يشعرون بالتقصير والذنب بعد معركة كربلاء، وعندما عم الاضطراب أنحاء بلاد العالم الإسلامي بعد موت يزيد بن معاوية، خرجت من الكوفة ثورة التوابين في 5 ربيع الثاني 65 هـ وفي منطقة عين الوردة استطاع عبد الملك بن مروان القضاء على ثورتهم. ما إن أُخمدت ثورة التوابين حتى خرج المختار الثقفي بشعار يا لثارات الحسين، واصطدم المختار الثقفي ضد الأمويين في أكثر من وقعة انتصر فيها عليهم، لكن مصعب بن الزبير حارب المختار الثقفي فكفى عبد الملك مواصلة قتاله واستطاع مصعب قتل المختار الثقفي وإخضاع الكوفة تحت سلطة ابن الزبير.
وكان الحجاز وبقية بلاد المسلمين إلا دمشق وجزء من الأردن تدين لعبد الله بن الزبير، وأدى زوال خطر المختار الثقفي إلى انحصار المنافسة على زعامة العالم الإسلامي بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير، فخرج عبد الملك إلى العراق، وانتصر على مصعب في معركة دير الجاثليق عام 72 هـ، ثم سارع بإرسال جيش إلى الحجاز بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي لمواجهة عبد الله بن الزبير، فحاصر الحجاج مكة، وانتهى الحصار بمقتل عبد الله بن الزبير ودخول مكة تحت سيادة بني أمية على الحجاز عام 73 هـ، وبهذا انتهت خلافة ابن الزبير وتوحد العالم الإسلامي تحت ولاية عبد الملك بن مروان وأصبح الخليفة الشرعي الوحيد للمسلمين.
بعد أن استشرى خطر الخوارج عيَّن عبد الملك المهلب بن أبي صفرة قائدًا لمحاربتهم، وبعد سلسلة طويلة من المعارك دامت ثلاث سنوات تمكن من التغلب على الخوارج الأزارقة عام 78 هـ. ثم أمر عبد الملك الحجاج بن يوسف ببدأ عمليات التصدي للخوارج الصفرية، وتمكن بعد عدة معارك من التغلب عليهم. ما إن استتب الأمر لابن مروان حتى قامت ثورة عبد الرحمن بن الأشعث عام 81 هـ واستمرت حتى عام 83 هـ، وانتهت بوقعة دير الجماجم التي تصدى لها الحجاج وانتهت الثورة بانتحار ابن الأشعث بعد هروبه من المعركة في سيجستان. لم يكن لعبد الملك نشاط كبير في الفتوحات الإسلامية: ففي جبهة المشرق الإسلامي ظلت فتوحات المسلمين على ما كانت قبل توليه الخلافة، أما على الجبهة البيزنطية، فقد عانى المسلمون من هجمات النصارى المردة، وبسببهم عقد عبد الملك مع الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني معاهدة عام 79 هـ الموافق 689م لمدة عشر أعوام. في حين كانت الجبهة الأفريقية المحور الجدِّي لفتوحات عبد الملك بن مروان، إذ خاض المسلمون عدة معارك لتصفية القواعد البيزنطية على الساحل الشمالي لإفريقية، وإخضاع البربر لسلطة الدولة، واستطاع القائد حسان بن النعمان الغساني الاستيلاء على قرطاجنة البيزنطيين، والقضاء على جيش البربر بقيادة الكاهنة ديهيا.
كانت خلافة عبد الملك بن مروان مليئة بالصراعات والثورات والحروب التي أخذت جُلَّ وقته وجهده، وعلى الرغم من ذلك تذكر كتب التاريخ عددًا من إنجازاته أهمها: سك أول دينار ذهبي إسلامي خالص عام 77 هـ والاستغناء عن كافة الصور والرموز الملكية والمأثورات الدينية المسيحية التي يحتملها الدينار البيزنطي. وتعريب الدواوين من الفارسية إلى العربية، إذ يُعد أول من بدأ تعريب الدواوين في التاريخ الإسلامي. بالإضافة لقيامه بجهود كبيرة في العمارة والبناء: فقام ببناء الكعبة على بناء قريش، وبناء مسجد قبة الصخرة، بالإضافة لبناء مدينتي واسط في العراق وتونس في الشمال الإفريقي.
نسبه ونشأته
هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الأموي القرشي. أبوه مروان بن الحكم رابع خلفاء الدولة الأموية في دمشق، ومؤسس الدولة الأموية الثانية، بويع بالخلافة بعد موت معاوية بن يزيد، في وقت كان نفوذ الأمويين قد ضعف، وبايعت أغلب الأقاليم عبد الله بن الزبير خليفةً للمسلمين. استطاع مروان السيطرة على الشام، وخرج بجيشه إلى مصر التي كانت قد بايعت عبد الله بن الزبير ودخلها وولى ابنه عبد العزيز عليها، لكنه فشل في السيطرة على الحجاز والعراق. توفي سنة 86 هـ. أمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية الأموية القرشية، أمها فاطمة بنت عامر الجمحي. قُتِل أبوها يوم أحد، وأدركت عائشة حياة النبي محمد نحو سبع سنين، ولم يبق بمكة في حجة الوداع أحد من قريش إلا أسلم وشهدها.
خلفاء بني أمية
ولد عبد الملك في المدينة في خلافة عثمان بن عفان سنة 26 هـ وهي ذات السنة التي ولد فيها ثاني خلفاء بني أمية يزيد بن معاوية. أول من سمي باسم عبد الملك في الإسلام هو عبد الملك بن مروان، وقيل أول من سمي عبد الملك وعبد العزيز هما أبناء مروان بن الحكم. كان عبد الملك ربعة من الرجال أقرب إلى القصر، وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، وكان أفوه مفتوح الفم، وربما غفل فينفتح فمه فيدخل فيه الذباب، ولذلك كان يقال له: أبو الذبَّان، وكان أبيض اللون ليس بالنحيف ولا البدين، مقرون الحاجبين، كبير العينين، دقيق الأنف، أبيض الرأس واللحية. كان عبد الملك قبل توليه الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء الملازمين للمسجد التالين للقرآن، قال نافع: «لقد رأيت المدينة ما فيها شاب أشد تشميرًا ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان»، وقال الأعمش عن أبي الزناد: «كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك قبل أن يدخل الخلافة»، وقال الشعبي: «ما جالست أحدًا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان، فإنني ما ذاكرته حديثًا إلا زادني فيه، ولا شعرًا إلا زادني فيه». روى عبد الملك الحديث عن أبيه ومعاوية بن أبي سفيان وعن أم المؤمنين أم سلمة وعن بريرة مولاة عائشة بنت أبي بكر، وعن جماعة من التابعين. وممن روى عن عبد الملك البخاري في كتابه الأدب المفرد، والإمام الزهري وعروة بن الزبير وخالد بن معدان وهو من فقهاء التابعين وعبَّادِهم، ورجاء بن حيوة أحد الأعلام. قال ابن كثير: «وسمع من عثمان بن عفان، وهو ممن سار بالناس في بلاد الروم سنة اثنين وأربعين، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والصلحاء والعبَّاد، وروى الحديث عن أبيه وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عمر ومعاوية وأم سلمة وبريرة مولاة عائشة، وروى عنه جماعة منهم: خالد بم معدان وعروة والزهري وعمرو بن الحارث ورجاء بن حيوة وجرير بن عثمان». كان عبد الملك حبوبًا ومرغوبًا من عمومته ومن كبار بني أمية، وذُكر أن معاوية بن أبي سفيان كان جالسًا يومًا ومعه عمرو بن العاص ومر بهما عبد الملك فقال معاوية: ما آدب هذا الفتى وأحسن مروءته، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع وترك خصالًا ثلاثًا، أخذ بحسن الحديث إذا حدث، وحسن الاستماع إذا حدث، وحسن البشر إذا لقي، وخفة المؤونة إذا خولف، وترك من القول ما يعتذر منه، وترك مخالطة اللئام من الناس، وترك ممازحة من لا يوثق بعقله ولا مروته.
سيرته قبل الخلافة
تخطيط اسم عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الخامس
كان أول حادث سياسي شهده عبد الملك هو حادث مقتل عثمان بن عفان، وكان عمره حينها عشر سنوات. وكان أول منصب إداري تولاه في الدولة في عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد عينه عاملًا على هجر، ثم تولى ديوان المدينة بعد وفاة زيد بن ثابت، وشارك في الجهاد على رأس حملة إلى أرض الروم سنة 42 هـ، وكان ضمن الجيش الذي غزا أفريقيا مع معاوية بن حديج، وكلفه بفتح جلولا في الشمال الإفريقي. في عهد يزيد بن معاوية كانت علاقته بالزبيريين تسير بشكل جيد، فكان يقول عن ابن الزبير: ما على الأرض اليوم خيرًا منه، وكانت علاقته بمصعب بن الزبير حسنة. بعد وفاة يزيد استلم سدة الحكم ابنه معاوية بن يزيد، الذي لم تدم فترة حكمه قبل موته عدة أشهر على قول، وأربعين يومًا على قولٍ آخر، في هذه الفترة بدأت الحركات المناوئة للأمويين تظهر على السطح، وبدأ الانقسام في العالم الإسلامي يستشري؛ ففي العراق ظهرت ثورة التوابين المطالبة بدم الحسين بن علي، وفي الحجاز أعلن عبد الله بن الزبير استقلاله بالخلافة عن تبعية بني أمية. كانت هذه الأحداث وتسارعها محركًا لاجتماع بني أمية في دمشق، بعد أن أحسوا أنهم أسرى القوى القبلية المتنافسة والمتصارعة سياسيًا وعسكريًا، فالحزب اليمني بقبيلته كلب النافذة في البلاط الأموي بزعامة حسان بن مالك الكلبي كانت متشددة بالحفاظ على امتيازاتها في ظل الدولة الأموية، وخشيت من انتقال الخلافة إلى الحجازيين. أما الحزب القيسي فقد كان مستاءً من محاربة يزيد لأهل المدينة، وقد وصل زعيمها الضحاك بن قيس الفهري إلى مكانة منحته الأحداث السياسية بعد وفاة معاوية الثاني مركزًا متقدمًا من خلال منصبه كأمير بلاد الشام حيث أتيحت له الفرصة أن يملأ الفراغ بصورة غير رسمية، كما وجد القيسيون في دعوة ابن الزبير فرصة تمكنهم من التغلب على الكلبيين وانتزاع القوة من أيديهم، وتفرقت كلمة الأمويين وتنافسوا على منصب الخلافة، فتوزعت آراؤهم بين ثلاثة مرشحين: فقد أيد حسان بن مالك خالد بن يزيد بن معاوية، ومال بعض القادة إلى مروان بن الحكم، وساند فريق ثالث عمرو بن سعيد.
اتفق بني أمية على عقد مؤتمر في الجابية، ترأسه حسان بن مالك، ليتداولوا فيمن يولونه الخلافة، وكان مروان ابن الحكم الأوفر حظًا لشيخوخته وكبره وعظم تجربته. انتهى المؤتمر لمصلحة ابن الحكم حيث اختير بإجماع الحاضرين، وخرج الكلبيون ممن أيدوا خالد بن يزيد بترضية حيث اختير مرشحهم وليًا للعهد، على أن تكون الخلافة من بعده لعمرو بن سعيد. بذلك انتقل الملك والخلافة في البيت الأموي من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني. استاء الضحاك بن قيس من خروج الأمر من يد ابن الزبير، فغادر دمشق إلى مرج راهط، وعسكر هناك وانضم إليه النعمان بن بشير والي حمص وزفر بن الحارث الكلابي أمير قنسرين. خرج مروان بن الحكم ومعه بني أميه وأنصاره لقتال القيسيين، وجرت بين الطرفين مفاوضات لتسوية الموقف، وعقد صلح بين الطرفين استمر عشرين يومًا، لكنه انهار لما وصلت أنباء استيلاء المروانيين على دمشق وإخراج عامل الضحاك منها وإعلان خلافة مروان بن الحكم فيها. في شهر ذي القعدة عام 64 هـ الموافق 684م التقى الجمعان في مرج راهط، وانتهت المعركة بهزيمة القيسيين وقتل زعيمهم الضحاك، وهروب زفر بن الحارث الكلابي بعد المعركة إلى قرقيساء وتحصن بها، فلما جاءت خيول بني أمية فر منها إلى العراق، واستتب الأمر لمروان في الشام وفلسطين.
أما عن دور عبد الملك السياسي في عهد والده مروان بن الحكم، فقد تولى إمارة فلسطين، ولكنه كان يبعث نائبًا عنه وهو روح بن زنباع وذلك حتى يبقى في دمشق قريبًا من إدارة الدولة ولمساعدة والده هناك، حيث كانت الدولة في الفترة التي تولى فيها والده الحكم محاطة بالأعداء والخصوم من الداخل والخارج، ثم تولى إمارة دمشق عند ذهاب والده لفتح مصر. في شهر رمضان من عام 65 هـ توفي مروان بن الحكم ولم يحقق هدفه بإعادة الحجاز والعراق إلى الحكم الأموي، وكان ابن مروان قد عهد بالخلافة لابنيه عبد الملك وعبد العزيز بعد أن أقنع الكلبيين ممن ساندوا خالد بن يزيد بعدم قدرته على التصدي لابن الزبير، واعتبر ما تم في مؤتمر الجابية من العهد لخالد بن يزيد ومن بعد لعمرو بن سعيد ضرورة، وقد زالت الضرورة الآن.
الخلافة
بويع عبد الملك بن مروان بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه والده في دمشق عام 65 هـ. بايع بنو أمية ابن مروان بالخلافة، لكن الوضع كان مختلفًا مع العلماء، فقد بايع بعض العلماء ابن مروان في الشام، وكانوا قلة لا يعدون شيئًا وكان هناك العلماء الذين بايعوا عبد الله بن الزبير، أو الذين اعتزلوا حتى تجتمع الأمة على خليفة. اختلف العلماء اختلافًا كبيرًا حول عبد الملك، فهناك من خرج عليه مثل عبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير، وهناك من ابتعد عنه والتزم بالبيعة كالحسن البصري، وهناك من كان قريبًا منه ناصحًا له كقبيصة بن ذؤيب. في بداية ولاية عبد الملك كان العالم الإسلامي منقسم بين أربع جماعات: فئة الأمويين الذين يسيطرون على الشام ومصر، وعبد الله بن الزبير الذي كان يسيطر على الحجاز والعراق، والحركة العلوية في العراق بقيادة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وجماعة الخوارج. وأكبر ما يوضح هذا الانقسام في العالم الإسلامي أنه في موسم حج عام 68 هـ ارتفعت أربعة ألوية: لواء عبد الملك بن مروان، ولواء محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، ولواء نجدة بن عامر زعيم خوارج اليمامة، ولواء ابن الزبير.
توطيد الاستقرار الداخلي
الفتوحات
الجبهة الشرقية
فتوحات خراسان وما وراء النهر في عهد عبد الملك بن مروان.
لم تسمح الاضطرابات المتلاحقة التي اجتاحت شرقي الدولة الإسلامية للمسلمين بالتوسع في فتوحاتهم، وكانت السياسة الخارجية التوسعية على هذه الجبهة هي آخر اهتمامات عبد الملك بن مروان لانصرافه لمعالجة القضايا الداخلية، وكان الجمود هو الطابع العام لسياسة الفتوحات في ذلك الوقت. لكن قوة الدولة سمحت لها بتحقيق بعض الفتوحات وإن لم تكن كبيرة في هذه المرحلة، ولم تنشط فتوحات ما وراء النهر إلا منذ أن تولى الحجاج ولاية خراسان مع العراق عام 78 هـ، فولَّى خراسان المهلب بن أبي صفرة الذي غزا مع أبنائه بلاد ما وراء النهر خاصة مدينة كش والختل وريخش، وتابع أبناؤه بعد وفاته سياسة الجهاد والفتوحات، حيث أرسل المهلب جيوش المسلمين من جديد نحو الشرق إلى بلاد التركمان ابتداء من عام 80 هـ، فعبر المهلب بجيشه نهر سيحون ونزل مدينة كش، ثم جعل يغزو البلاد غزوا متواصلًا، وركز معاركه على مدن سمرقند وبخارى وبطخارستان وببست. كانت الجيوش مقسمة على عدة قادة؛ فأحد الجيوش كان في مقدمته أبو الأدهم الزماني في ثلاثة آلاف، والمهلب على آخر في خمسة آلاف مقاتل، وابنه يزيد بن المهلب على رأس جيش مهمته فتح بلاد الختل، الذي استطاع من تحقيق أهداف حملته واضطر ملك الختل إلى مصالحة يزيد ودفع الجزية له. بعد وفاة المهلب ولَّى الحجاج ابن المهلب يزيد على خراسان، فقام يزيد عام 84 هـ بفتح قلعة باذغيس بعد أن أحكم حصارها، واستولى على مافيها من أموال وذخائر، ثم عزل الحجاج يزيد بن المهلب وعين أخاه المفضل بن المهلب على ولاية خراسان عام 85 هـ، فولي المفضل البلاد تسعة أشهر قام خلالها بغزو باذغيس وفتحها، ثم غزا مدينة أخرون وشومان. إلا أن فتوحات المسلمين لم تأخذ مظهرها الجدي والنوعي إلا عندما ولَّى الحجاج قتيبة بن مسلم الباهلي ولاية خراسان عام 86 هـ، وهي نفس السنة التي توفي فيها عبد الملك بن مروان.
الجبهة البيزنطية
صورة للإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني مسكوك على عملة ضربت خلال فترة حكمه الثانية. وهو من وقع مع عبد الملك معاهدة دفع بموجبها المسلمين ثلاثمئة وخمسين وستين ألف قطعة ذهبية سنويًا للدولة البيزنطية
فقد المسلمون روح المبادرة والقوة أمام الروم البيزنطيين في عهد الاضطرابات الداخلية التي عصفت بالدولة الإسلامية، فانتهز الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني هذه الفرصة ونقض المعاهدة التي سبق وأن أبرمها البيزنطيون مع المسلمين، وساق جيوشه لقتالهم فاجتاح بعض بلاد الشام عام 70 هـ الموافق 689م. في هذه الفترة وقع على الطرف الشرقي للإمبراطورية البيزنطية حادث أثر على سير العلاقات بين المسلمين والروم، كانت هناك جماعات من المردة النصارى في جبال الأمانوس قد ألفوا جيشًا واتخذت منهم السلطات البيزنطية سياجًا حدوديًا بينها وبين المسلمين في هذه المنطقة، كان المردة بحكم موقعهم الجغرافي ووضعهم السياسي يحمون الدولة البيزنطية من هجمات المسلمين ويدافعون عن معاقلهم الجبلية المنيعة ضد أي اعتداء خارجي، وكثيرًا ما توغلوا جنوبًا حتى وصلوا إلى جبال لبنان، وقد ضايقوا المسلمين بما كانوا يشنونه من غارات مستمرة على المناطق المجاورة خاصة المناطق الساحلية، اضطر عبد الملك بن مروان وفقًا للظروف الحالية إلى المهادنة تفاديًا لحروب جديدة في المنطقة، وللتفرغ للمشاكل الداخلية التي استجدت في العالم الإسلامي، فعقد مع الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني معاهدة عام 79 هـ الموافق 689م تعهد الخليفة بمقتضاها بالتالي: أن يدفع مالًا مقدرًا للإمبراطور البيزنطي يبلغ ثلاثمئة وخمسة وستين ألف قطعة ذهبية، وثلاثمئة وخمسة وستين عبدًا، وثلاثمئة وخمسة وستين جوادًا أصيلًا في مقابل وقف الغارات البيزنطية على الأراضي الإسلامية، وأن تقتسم الدولتان الإسلامية والبيزنطية خراج أرمينيا وقبرص وإيبيريا، وأن تسحب الإمبراطورية البيزنطية المردة من منطقتي جبال لبنان وشمالي الشام إلى ما وراء جبال طوروس في آسيا الصغرى، وأن تستمر هذه المعاهدة مدة عشر أعوام.
صورة للجسر الروماني في مدينة المصيصة، التي فتحت عام 686م في زمن عبد الملك بن مروان
كان من نتيجة انسحاب المردة من جبال لبنان وشمالي الشام أن قُضي على السور القوي الذي كان يحمي آسيا الصغرى من غارات المسلمين، وسَمح للمسلمين بتجديد غاراتهم على المنطقة وتوطيد مركزهم في الأقاليم التي فتحوها حديثًا. فعادت غارات المسلمين للمشهد العسكري، ونجم عنها فتح قيسارية عام 71 هـ، وبعدها بسنتين كشف عبد الملك بن مروان عن نواياه تجاه الإمبراطورية البيزنطية بعد أن فرغ من مشاكله الداخلية، عندما قام بضرب الدنانير الذهبية الإسلامية وأرسلها كجزية بدلًا من العملة البيزنطية، وقد حمل هذا التصرف تحدي للإمبراطور ومقدمة إلى قرب استئناف المسلمين نشاطهم العسكري على الجبهة البيزنطية. في أواخر عام 73 هـ شعر عبد الملك بن مروان أن الدولة استعادت قوتها، فعين أخاه محمد بن مروان واليًا على الجزيرة وأرمينيا ليكون القائد في هذه الجبهة، ومنع عبد الملك إرسال النقود التي كان يدفعها وقت الضرورة. في عام 73 هـ هاجم المسلمون آسيا الصغرى في أرمينيا، حيث التقى الجيشان بقيادة الإمبراطور البيزنطي من جهة، ومن جهة أخرى محمد بن مروان، ودارت معركة كبيرة بين الطرفين وهزم فيها الروم. في حين رد البيزنطيون على هزيمتهم في أرمينيا بغزو مرعش عام 76 هـ، وكان هذا العام هو العام الذي عُزل فيه الإمبراطور جستنيان الثاني، وخلفه من بعده الإمبراطور ليونتيوس، حيث استمرت الغارات الإسلامية في عهده. ثم ما لبث أن تراجع الاندفاع الإسلامي باتجاه الثغور البيزنطية ابتداء من عام 81 هـ بفعل عاملين: الأول اجتياح مرض الطاعون بلاد الشام عام 78 هـ، والثاني: قيام ثورة عبد الرحمن بن الأشعث عام 81 هـ والتي استمرت أربعة أعوام. استغل الإمبراطور البيزنطي طيباريوس الثالث هذه الأوضاع وكثف نشاطه العسكري وهزم المسلمين عند سميساط وفي منطقة قيليقية عام 84 هـ، إلا أن عبد الملك بن مروان بعد فراغه من ثورة ابن الأشعث هاجم إقليم قيليقية واصطدم بالقوات البيزنطية عند مدينة سيواس، وكانت المعركة بقيادة الإمبراطور نفسه، وانتصر عليه، وبذلك عادت سيطرة المسلمين مجددًا على منطقة أرمينيا، كما فتح المسلمون المصيصة، وبنى عبد الملك حصنها، ووضع بها حامية من ثلاثمئة مقاتل من ذوي البأس، ولم يكن المسلمون قد سكنوها من قبل، فبنى مساجدها وعمر دورها.
جبهة إفريقية
صورة توضخ فتوحات الدولة الأموية، وتظهر فيها تونس أقصى منطقة وصلتها فتوحات عبد الملك بن مروان
كانت الجبهة الإفريقية المحور الجدِّي لسياسة الفتوحات في عهد عبد الملك بن مروان، إذ خاض المسلمون عدة معارك لتصفية القواعد البيزنطية على الساحل الشمالي لإفريقية، وإخضاع البربر لسلطة الدولة. بعد أن هدأت أوضاع الاضطرابات التي عصفت بالدولة الأموية، وجد عبد الملك بن مروان أمامه متسعًا من الوقت ليقوم بعمل كبير في إفريقية، خاصة أنه خشي من انعكاس نتائج التحالف البيزنطي البربري وما يمكن أن يسببه من تهديد للحدود الغربية للدولة، فعهد إلى زهير بن قيس البلوي بقيادة العمليات العسكرية، وأمره بالقضاء على قائد البربر كسيلة، واستعادة الأراضي التي أخلاها المسلمون عقب مقتل عقبة بن نافع، وبتعيين زهير قائدًا للجبهة الإفريقية بدأت المرحلة الخامسة من مراحل فتوح شمالي إفريقية في الحقبة الإسلامية.
صورة لملك البربر كسيلة الذي قتله جيش زهير بن قيس عام 69 هـ الموافق 688
كان زهير بن قيس قد انسحب بالمسلمين من القيروان بعد مقتل عقبة، وظل منتظرا في برقة إلى أن تأتيه الإمدادات لكي ينهض إلى إفريقية من جديد، ونظرًا لأنه صاحب عقبة، فقد وقع الاختيار عليه ليقود الحملة العسكرية الجديدة، وأمده الخليفة عبد الملك بالخيل والرجال والعتاد والمال. سار زهير بن قيس بجيشه إلى القيران سنة 69 هـ الموافق 688، وكان كسيلة قد تركها هو ومن معه من البربر والروم، واحتمى بجبل على مقربة منها، فلما وصل زهير لم يدخل المدينة وإنما أقام بظاهرها ثلاثة أيام، إلى أن استراح الجيش استعدادا للمعركة الكبرى، وفي اليوم الرابع التقى الجمعان بالقرب من القيروان على مسيرة يوم منها في معركة كبيرة، حقق المسلمون فيها نصرًا كبيرًا، فانهزم البربر والروم، وقُتل كسيلة وكثير من كبار أصحابه، وطارد المسلمون فلول المنهزمين إلى مسافات بعيدة. رجع زهير إلى القيروان ليرتب أمورها ويصلح من أحوال المسلمين بها، وبعد أن تم له من ذلك ما أراد واطمأن إلى أنه لم يعد هناك خطورة لخلو البلاد من عدو أو ذي شوكة، أعلن أنه عائد إلى المشرق ومن أراد من أصحابه. كان الروم بالقسطنطينية قد بلغهم مسير زهير ومعه الجيش كله من برقة إلى القيروان لقتال كسيلة، فاغتنموا الفرصة وخرجوا من جزيرة صقلية في مراكب كثيرة وقوة عظيمة، فأغاروا على برقة، وأصابوا فيها سبيًا كثيرًا وقتلوا ونهبوا، وأقاموا بها مدة أربعين يومًا، وافق ذلك رجوع زهير إلى المشرق فأُخبر بخبرهم، فأمر العساكر بالإسراع والجد في قتالهم، وعجل هو بالمسير ومعه سبعون من أصحابه أكثرهم من التابعين وأشراف العرب المجاهدين، وعندما علم الروم بقدومه أخذوا في الاستعداد للرحيل عن برقة، وفي الوقت الذي وصل زهير فيه إلى ساحل مدينة درنة التي اتخذها الروم مركز لهم، باشر القتال، وتكاثر الروم عليهم، فقتلوا زهيرا وأصحابه ولم ينج منهم أحد، وعاد الروم بما غنموا إلى القسطنطينية.



