خسائر فادحة رغم طفرة الإنتاج.. لماذا تنزف مصانع السكر في مصر؟

تعاني مصانع السكر في مصر من مأزق حاد جعلها غير قادرة على مجاراة التكلفة المرتفعة للإنتاج، وسط منافسة غير عادلة مع شركات أخرى تستورد الخام من الخارج بأسعار منخفضة وتُكرره محلياً ثم تطرحه للبيع بسعر دون المُصنَّع بالكامل داخل مصر، وهو ما يهدد استدامتها ما لم تُفرض آليات حماية تحقق تكافؤ الفرص في السوق، بحسب 6 أشخاص لـ”الشرق”، بينهم مسؤولون حكوميون.
هذا الوضع أجبر المصانع -الحكومية والخاصة- على البيع بخسائر تتراوح بين 3 آلاف جنيه و6 آلاف جنيه للطن، لتدبير السيولة اللازمة لسداد مستحقات مزارعي البنجر وتفادي أعباء الفوائد البنكية.
ورغم قرار وزارة الاستثمار المصرية حظر استيراد السكر المكرر لمدة 3 أشهر تنتهي في فبراير 2026، تلجأ بعض الشركات إلى التحايل عبر استيراد السكر الخام ثم إعادة تكريره محلياً لطرحه في البلاد.
ارتفاع مخزون السكر في مصر
وزير التموين المصري، شريف فاروق، قال لـ”الشرق”، إن الوزارة تساند شركات إنتاج السكر من البنجر والقصب؛ بالعديد من الإجراءات منها حظر استيراد السكر المكرر لمدة 3 أشهر، وذلك لارتفاع مخزون السكر داخل الدولة، مشيراً إلى أن هذه الإجراءات تستهدف دعم هذه الشركات للحفاظ على صناعة السكر.
أضاف الوزير في حديثه مع “الشرق” أنه يتم التنسيق بين وزارة التموين والجهات المعنية والوزارات المختلفة، مثل وزارتي الاستثمار والزراعة، وجهاز مستقبل مصر، لدعم الشركات، والحد من تأثيرات ارتفاع مخزون السكر، كما يتم التنسيق مع الجهاز المصرفي بالدولة لمعاونة هذه الشركات على الإتاحات المالية لحين بيعها مخزون السكر المتواجد لديها.
وفرة السكر المستورد والمخزن تقلص مبيعات الشركات في مصر
خفضت الحكومة السعر الاسترشادي لتوريد بنجر السكر لموسم 2025-2026 بنحو 16.6% ليصل إلى 2000 جنيه للطن، بدلاً من 2400 جنيهاً في الموسم السابق، بهدف موازنة الإنتاج وتفادي الفائض خاصة مع تحقيق الاكتفاء الذاتي.
قال رئيس إحدى الشركات الخاصة العاملة في صناعة السكر بمصر إن المخزون الراكد لدى الشركات يصل إلى نحو 1.3 مليون طن، نتيجة فتح باب استيراد السكر بأسعار دون تكلفة الإنتاج المحلي.
وأوضح أن رغم حظر استيراد السكر الأبيض لمدة 3 أشهر، فإن استيراد السكر الخام مستمر، حيث يتم تكريره محلياً وبيعه بأسعار زهيدة تحقق مكاسب لبعض الشركات، بينما تتكبد باقي المصانع خسائر فادحة.
رسوم حمائية على واردات السكر الخام والأبيض
أكد رئيس الشركة الخاصة على ضرورة فرض رسوم حماية على واردات السكر الخام والأبيض، أو تحديد “كوتا” استيراد لحماية الصناعة المحلية، مشيراً إلى أن كلفة البنجر أصبحت أعلى من تكلفة إنتاج السكر ذاته، في حين أن الأسعار العالمية تشمل دعماً للمزارعين.
وحذر من أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى عدم قدرة المصانع على الصمود وإغلاقها مع فقدان آلاف الوظائف، لافتاً إلى أن خسائر المصانع هذا العام تتجاوز 10 مليارات جنيه، مع خسارة تصل إلى نحو 6 آلاف جنيه لكل طن سكر.
إنتاج السكر في مصر
يصل إنتاج مصر الحالي من السكر إلى 3 ملايين طن سنوياً، بينما يفوق الاستهلاك 3.4 مليون طن. وتستورد الحكومة الفرق من الخارج بالتعاون مع القطاع الخاص. وهناك 16 شركة كبيرة لإنتاج السكر في البلد الأكبر عربياً من حيث عدد السكان، 8 منها شركات حكومية يتم من خلالها استيراد السكر من الخارج بشكل أساسي لتعويض النقص في السوق.
رئيس إحدى شركات السكر الخاصة، يقول إن الخسارة وصلت إلى 6 آلاف جنيه في الطن الواحد، نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلية، في وقت تراجعت فيه الأسعار العالمية، ما أدى لانخفاض أسعار السكر المستورد وزيادة تدفقه إلى السوق، وأجبر المصانع المحلية على خفض أسعارها لمجاراة السكر المستورد الأرخص.
تكاليف إنتاج مرتفعة
أضاف رئيس الشركة الذي طلب عدم ذكر اسمه لـ”الشرق”، أنه بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج كان من الممكن على المصنع الاتجاه إلى الاستيراد الذي يُعدّ الحل الأسهل والأفضل للشركة، إلا أنه يستثمر في مصر لدعم الصناعة الوطنية المحلية؛ وليس بغرض المكسب فقط، مطالباً بضرورة فرض رسوم إغراق على واردات السكر الخام، حتى تتساوى مع تكاليف إنتاج نظيره المحلي.
أما في إحدى مصانع السكر الحكومية التابعة لوزارة التموين، تتفاقم الخسائر نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع أسعار البيع، إذ انخفض سعر الطن في السوق المحلية إلى نحو 26 ألف جنيه، رغم أن تكلفة إنتاجه تتجاوز 30 ألف جنيه، بحسب ما قاله أحد رؤساء الشركات لـ”الشرق”.
المسؤول الحكومي أوضح أن مصانع السكر تتكبد خسائر تتراوح ما بين 3 إلى 4 آلاف جنيه في الطن، من أجل توفير السيولة اللازمة لسداد مستحقات المزارعين، موضحاً أنه في حال عدم تخفيض الأسعار ستلجأ شركته إلى الاقتراض لسداد مستحقات المزارعين التي تجاوزت 5 مليارات جنيه في مصنع واحد، مقابل استلام محصول البنجر، مع تحمل أعباء إضافية من الفوائد البنكية.
إغراق السوق بالسكر المستورد
عزا المسؤول أسباب الخسارة إلى إغراق السوق بالسكر المستورد رخيص السعر، رغم الإنتاج الوفير من السكر المحلي الذي تراوح بين 3 ملايين طن إلى 3.1 مليون طن، مقابل حجم استهلاك لا يتجاوز الـ3.4 مليون طن.
وأشار إلى أن سعر طن السكر المستورد يبلغ 22 ألف جنيه، ويتم إضافة 2000 جنيه للتكرير ليُباع الطن في السوق بـ24 ألف جنيه فقط، أي دون تكلفة إنتاج الطن محلياً بنحو 6 آلاف جنيه.
انخفضت أسعار السكر عالمياً لتصل لأدنى مستوياتها منذ 5 سنوات في البورصات العالمية، وهو ما شجع على دخول كميات كبيرة من السكر الخام والمكرر إلى السوق المصرية، بحسب المسؤول الحكومي الذي طالب بفرض رسوم جمركية وحماية عادلة على واردات السكر الخام والمكرر، بحيث لا يقل سعره النهائي في السوق عن سعر المنتج الزراعي المحلي، بما يضمن تكافؤ الفرص ويمنع الإضرار بالمزارعين وسلاسل الإمداد المحلية.
“الخسارة في البيع أقل ضرراً من تراكم الفوائد البنكية”، بحسب المسؤول، مضيفاً: “كل طن يبقى في المخزن تزيد كلفته بنحو 4 آلاف جنيه بسبب الفوائد”.
بلغ إنتاج مصر من السكر نحو 3.12 مليون طن في 2025، لأول مرة في تاريخها، موزعاً بواقع 620 ألف طن من قصب السكر، و2.5 مليون طن من بنجر السكر، وفقاً لرئيس مجلس المحاصيل السكرية بوزارة الزراعة، مصطفى عبد الجواد.
زرعت مصر الموسم الماضي 750 ألف فدان من محصول بنجر السكر، بزيادة 25% عن الموسم السابق له، مع توقعات بانخفاض المساحات المزروعة من البنجر الموسم المقبل بعد تخفيض أسعار التوريد، بجانب زراعة 310 آلاف فدان من قصب السكر.
أزمة السكر الأبيض في مصر
قررت الحكومة المصرية، العام الماضي؛ استيراد مليون طن سكر أبيض، للعمل على حل أزمة شح المعروض في الأسواق المحلية وقتها، بعدما سادت العشوائية في ذاك الوقت على تسعير السلع بالأسواق المصرية في ظل عدم توفر العملة الصعبة للمستوردين، ما دفع بعض القطاعات لتسعير وبيع منتجاتها بالدولار كالحديد والأسمدة والأعلاف.
رئيس شعبة السكر في اتحاد الصناعات المصرية، حسن الفندي، قال لـ”الشرق”، إن قرار الحكومة بحظر استيراد السكر خلق قدراً من الحماية للمصانع بهدف الحفاظ على الثروة القومية والوطنية لصناعة السكر، مشيراً إلى أن مخزون السكر أصبح يغطي 13 شهراً.
لكن رئيس الشعبة أكد أن فوائد البنوك التي لا تزال مرتفعة، وتُحدث ضغطاً على المنتجين وأصحاب المصانع. متوقعاً في حديثه مع “الشرق”، أن تتحسن حالة ووضع مصانع السكر خلال الفترة المقبلة، خاصة مع تزايد الطلب تزامناً مع حلول شهر رمضان المبارك قريباً، ووقف الاستيراد.
قيود مصرفية
لم تقتصر الأزمة على الصناعة فقط، بل امتدت إلى القطاع المصرفي، حيث أكد مصرفيون لـ”الشرق” أن البنوك تتحفظ حيال منح تمويلات جديدة لمصانع السكر المعتمدة على زراعة البنجر في مصر بسبب المخاطر المتزايدة.
قال مدير عام تمويل الشركات بأحد البنوك الحكومية: “واجه أكبر مصنع لإنتاج السكر من البنجر أزمة في الديون المستحقة عليه للبنوك بسبب عدم قدرة المصنع على العمل بالطاقة الإنتاجية المستهدفة، وهو ما أثّر على ضعف التدفقات النقدية والتخلف عن سداد أقساط البنوك في المواعيد المحددة”.
وأوضح في حديثه مع “الشرق” أن تذبذب وانخفاض سعر السكر يدفع البنوك للترقب في هذه المرحلة لحين استقرار السوق، بخلاف أزمة الديون التي تواجه أحد أكبر المصنعين في السوق المحلية.
مدير عام ائتمان ببنك خاص، قال إن مصرفه يمنح تسهيلات ائتمانية لمصانع السكر التي تعتمد على الخام المستورد في عملية التصنيع، حيث لا تواجه هذه المصانع خسائر تحد من قدرتها على السداد، على العكس من المصانع التي تعتمد على محصول البنجر.
يُباع طن السكر من المصنع حالياً بسعر 26 ألف جنيه، بينما يتراوح متوسط سعره للمستهلك بين 28 و35 جنيهاً للكيلو.
حازم المنوفي، عضو شعبة المواد الغذائية باتحاد الغرف التجارية، أضاف لـ”الشرق”، أنه لن تحدث زيادة في أسعار السكر مع دخول شهر رمضان المبارك، حتى وإن زاد الطلب بشكل أكبر من الآن، نتيجة ارتفاع مخزون الاحتياطي من السكر لأكثر من عام كامل، بالإضافة إلى دخول إنتاج محصول قصب السكر من يناير المقبل، ومن بعده تبدأ المصانع استلام محصول بنجر السكر.
المنوفي أشار خلال حديثه لـ”الشرق”، إلى محاولات بعض التجار لزيادة أسعار السكر بأي شكل، إلا أن محاولاتهم تبوء دائما بالفشل، بسبب زيادة الإنتاجية وارتفاع المخزون من السكر، وسط طلب متوسط حالياً رغم انخفاض الأسعار.



