“سواكن الأولى” للروائي وليد مكي . ..الفردوس الهش وفساد الأمكنة

ليس من المصادفة أن تصل رواية (سواكن الأولى) للروائي وليد مكي إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس الثقافية لشباب الأدباء وكتّاب السيناريو في دورتها الحادية والعشرين؛ كما سبق وتم ترشيح الرواية لجائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرًا ضمن القائمة القصيرة لعام 2024، حيث إن قيمة الرواية تكمن في قدرتها على مساءلة المكان، وتحويله إلى كائن سردي نابض يختبر حدود اليوتوبيا والدستوبيا معًا.

تنتمي الرواية إلى سرد درامي مشوّق، يمزج بين الواقعية والخيال، ويتكئ على عناصر الرعب والإثارة، دون أن يقع في فخ الاستعراض أو التسطيح، إذ تنبع غرائبيته من الأساطير التي يؤمن بها سكان المكان، ويتعاملون معها بوصفها حقائق غير قابلة للجدال، ومن هنا تتقاطع الرواية مع حقل الجغرافيا الثقافية، حيث يُجلى الواقع عبر الحكاية، والتمهل في التقاط التفاصيل، والإنصات للذاكرة الشفاهية، بما يتجاوز في عمقه مقاربات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا التقليدية.

يتخذ المكان في الرواية– حلايب وشلاتين– دور البطل المركزي، فالمسرح الجغرافي يغدو فضاءً مشحونًا بالرموز والدلالات، تتوسطه منطقة غائرة يعلوها جبل “إلبا”، الجبل المهيب الذي يتحول إلى سلطة رمزية عليا وحارسٍ للذاكرة وشاهدٍ على اختلال التوازن بين الإنسان والعالم، وعلى قمته تظهر الغيمة البيضاء الشبيهة بإناء فخاري عملاق، التي يرقد داخلها الشاب (هُمّد)، المختفي عن أهله بعد أن بحثوا عنه في الجبال والبحار؛ لتغدو الغيمة منذ لحظة اكتشافها مفتاح الصراع ومركز التوتر في الرواية.

تنطلق الأحداث من اختفاء (هُمّد) ابن شيخ قبيلة البشارية، في اعتقاد شائع بأن الجن قد اختطفوه بعد صراع مع قبيلة الجبل، ومن هذه النقطة تتشعب الصراعات؛ صراعات أسرية وقبلية وصراعات على الزعامة وأخرى بين عوالم الإنس والجن، حيث يسعى (آدم أوكير) إلى التحالف مع (وجوك) زعيمة الجن في محاولة للهيمنة والسيطرة، بينما ينشغل (هُمّد) نفسه بملاحقة معنى هويته الضائعة بين القدر والاختيار.

في هذا السياق تتجلى ثيمة الفردوس الهش؛ إذ ترسم الرواية مجتمعًا تقليديًا متماسكًا تحكمه الأعراف، وتشد أفراده روابط المكان والذاكرة وتبدو الحياة فيه- للوهلة الأولى- منسجمة ومكتفية بذاتها. غير أن هذا الفردوس لا يلبث أن يتصدع، لتطل دستوبيا المكان من الداخل، نتيجة فساد كوني ورمزي حيث (يفسد الجبل حين يُسفك الدم)، ويفسد البحر بتسرب الزيت، ويفسد الفضاء حين تتحول الغيمة إلى سجن، وتفسد العادات حين تُكسر تقاليد الترحال والاختلاط، وتفسد النفوس حين تراودها الرغبة في الرحيل.

ويبرز تميز الرواية في جعل المكان ذاته مصدرًا للصراع، ومجالًا للتفاوض حول الهوية. فـ(سواكن الأولى) تسلط الضوء على القرى الجنوبية الممتدة بين مصر والسودان، وتكشف عن هوية شمولية مركبة، اجتماعية وثقافية وعرقية في آن، حيث القبائل عابرة للحدود السياسية والتاريخ مشترك والحكايات تتنقل بين الشمال والجنوب، في تحدٍ صامت للخرائط التي رسمتها الدولة الحديثة.

ورغم حضور عناصر التحديث لاحقًا – من طرق وموانئ ومؤسسات – لا تتبنى الرواية موقفًا إقصائيًا، لكنها تكشف أثره النفسي العميق، وكيف يُربك يقينًا قديمًا، ويزرع القلق في نفوس كانت مطمئنة، وهنا تتقاطع الرواية في وعيها بالمكان وفساده، مع رواية (فساد الأمكنة) لصبري موسى، غير أن وليد مكي يعيد طرح السؤال من زاوية مختلفة، تجعل الفساد نابعًا من اختلال العلاقة بين الإنسان وبيئته.

إن قدرة وليد مكي على خلق هذا التوازن الدقيق بين الواقعي اليومي والغرائبي الأسطوري وبين جماليات المكان وقسوته، هي ما يجعل (سواكن الأولى) تجربة قراءة غنية وممتعة، ويمنحها مشروعيتها الفنية في سباق الجوائز، فهي رواية تدعو القارئ إلى إعادة التفكير في معنى الهوية، وفي مصير الأمكنة حين تفقد انسجامها الداخلي، وحين يتحول الفردوس إلى وعدٍ هش مهدد بالفساد لكنه لا يزال رغم كل شيء، جديرًا  بالحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى