الأَمْنُ القَوْمِيُّ المَائِيُّ وَحُرُوبُ المِيَاهِ … مِنْ أَدَاةِ بَقَاءٍ إِلَى جَبْهَةِ صِرَاعٍ جُيُوسِيَاسِيٍّ

إعداد :د/شيماء المتعب

لم يَعُدِ المَاءُ فِي عَالَمِ اليَوْمِ مُجَرَّدَ مَوْرِدٍ طَبِيعِيٍّ تُدِيرُهُ الدُّوَلُ ضِمْنَ سِيَاسَاتِهَا العَامَّة، بَل تَحَوَّلَ إِلَى أَحَدِ أَرْكَانِ الأَمْنِ القَوْمِيِّ وَشَرْطٍ أَسَاسِيٍّ لِبَقَاءِ الدُّوَلِ وَاسْتِقْرَارِهَا. وَمَعَ تَزَايُدِ الضُّغُوطِ السُّكَّانِيَّةِ، وَتَغَيُّرِ المُنَاخِ، وَتَدَاخُلِ السِّيَاسَةِ بِالجُغْرَافْيَا، أَصْبَحَ المَاءُ مَجَالًا صِرَاعِيًّا مُتَقَدِّمًا، تَتَشَكَّلُ حَوْلَهُ مَعَارِكُ غَيْرُ تَقْلِيدِيَّةٍ لَا تُخَاضُ بِالدَّبَّابَاتِ بَل بِالسُّدُودِ، وَالاتِّفَاقِيَّاتِ، وَالسَّرْدِيَّاتِ السِّيَاسِيَّةِ.

 

أَوَّلًا: الأَمْنُ القَوْمِيُّ المَائِيُّ – مَفْهُومُ البَقَاءِ

 

يُعَرَّفُ الأَمْنُ القَوْمِيُّ المَائِيُّ بِأَنَّهُ قُدْرَةُ الدَّوْلَةِ عَلَى تَأْمِينِ احْتِيَاجَاتِهَا المَائِيَّةِ كَمًّا وَنَوْعًا، بِمَا يَضْمَنُ اسْتِمْرَارَ الحَيَاةِ، وَالتَّنْمِيَةِ، وَالِاسْتِقْرَارِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ. وَهُنَا يَخْرُجُ المَاءُ مِنْ دَائِرَةِ الخِيَارِ السِّيَاسِيِّ إِلَى دَائِرَةِ الضَّرُورَةِ الوُجُودِيَّةِ.

 

ثَانِيًا: مِنَ الإِدَارَةِ إِلَى التَّحْصِين

 

الدُّوَلُ الَّتِي تُدْرِكُ خُطُورَةَ المَاءِ لَا تَكْتَفِي بِإِدَارَتِهِ، بَل تَعْمَلُ عَلَى تَحْصِينِهِ اسْتِرَاتِيجِيًّا عَبْرَ تَنَوُّعِ المَصَادِرِ، وَتَطْوِيرِ البِنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ، وَرَبْطِ المَلَفِّ المَائِيِّ بِالأَمْنِ الغِذَائِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ.

 

ثَالِثًا: حِينَ تَفْشَلُ السِّيَاسَةُ – ظُهُورُ حُرُوبِ المِيَاهِ

 

عِنْدَمَا يَتَعَارَضُ حَقُّ البَقَاءِ مَعَ حِسَابَاتِ النُّفُوذِ، تَنْتَقِلُ المِيَاهُ مِنْ مَسَاحَةِ التَّفَاوُضِ إِلَى مَسَاحَةِ الصِّرَاعِ. وَهُنَا تَبْدَأُ حُرُوبُ المِيَاهِ كَصِرَاعٍ غَيْرِ مُعْلَنٍ تُسْتَخْدَمُ فِيهِ أَدَوَاتُ الضَّغْطِ الِاقْتِصَادِيِّ، وَالقَانُونِيِّ، وَالإِعْلَامِيِّ.

 

رَابِعًا: أَدَوَاتُ حُرُوبِ المِيَاهِ

 

فَرْضُ الأَمْرِ الوَاقِعِ عَبْرَ المَشَارِيعِ المَائِيَّةِ الكُبْرَى.

 

التَّلَاعُبُ بِالقَانُونِ الدُّوَلِيِّ وَتَفْسِيرَاتِهِ.

 

بِنَاءُ سَرْدِيَّاتٍ إِعْلَامِيَّةٍ تُجَرِّمُ دَوْلَةَ المَصَبِّ.

 

الاِسْتِنْزَافُ غَيْرُ المُبَاشِرِ لِلْقُدْرَاتِ الغِذَائِيَّةِ.

 

خَامِسًا: الحَالَةُ المِصْرِيَّةُ – مِنَ البَقَاءِ إِلَى المُوَاجَهَةِ الوَاعِيَةِ

 

تُمَثِّلُ مِصْرُ نَمُوذَجًا فَرِيدًا فِي تَدَاخُلِ الأَمْنِ المَائِيِّ مَعَ الأَمْنِ القَوْمِيِّ. فَنَهْرُ النِّيلِ لَيْسَ مَوْرِدًا، بَل عُنْصُرُ وُجُودٍ. وَمِنْ ثَمَّ، فَإِنَّ السِّيَاسَةَ المَائِيَّةَ المِصْرِيَّةَ تَقُومُ عَلَى مَبْدَأِ تَحْصِينِ البَقَاءِ قَبْلَ إِدَارَةِ الصِّرَاعِ.

 

سَادِسًا: نَحْوَ نَمُوذَجٍ شَامِلٍ لِلأَمْنِ المَائِيِّ

 

لَا يَكْفِي فِي عَالَمِ اليَوْمِ أَنْ تَدَافِعَ الدَّوْلَةُ عَنْ حُقُوقِهَا المَائِيَّةِ، بَل يَجِبُ أَنْ تَبْنِيَ مَنَاعَةً مَائِيَّةً شَامِلَةً تُقَلِّلُ مِنْ فُرَصِ تَحَوُّلِ النَّهْرِ إِلَى جَبْهَةِ صِرَاعٍ.

 

إنّ الانتقال من النظر إلى الأمن القومي المائي كأداة بقاء إلى تفكيك مفهوم حروب المياه ليس انتقالًا موضوعيًّا بقدر ما هو انتقال منطقي في فهم طبيعة الصراع المعاصر. فحين يصبح الماء شرطًا للاستقرار الداخلي، وأساسًا للأمن الغذائي، ومحركًا للتنمية أو الانهيار، فإنه لا يعود مجرد مورد طبيعي تُدار حوله السياسات، بل يتحول إلى جبهة صراع مفتوحة تُمارَس عليها أدوات الضغط والنفوذ دون إعلان حرب.

 

ومن هذا المنطلق، لا يمكن قراءة الأمن القومي المائي بمعزل عن ديناميكيات الصراع الدولي والإقليمي، حيث تتحول الأنهار من شرايين حياة إلى أدوات إعادة تشكيل ميزان القوة. وهنا تتجلى حروب المياه بوصفها الامتداد العملي لفكرة البقاء المائي، حين تفشل السياسة وحدها في احتواء التهديد، ويصبح التحكم في تدفق المياه، أو توقيته، أو كميته، فعلًا استراتيجيًا ذا آثار أمنية

يَكْشِفُ تَدَاخُلُ الأَمْنِ القَوْمِيِّ المَائِيِّ مَعَ حُرُوبِ المِيَاهِ عَنْ حَقِيقَةٍ أَسَاسِيَّةٍ: أَنَّ المَاءَ لَمْ يَعُدْ خِيَارًا سِيَاسِيًّا، بَل مِحْوَرَ بَقَاءٍ وَمِيزَانَ قُوَّةٍ. وَفِي عَالَمٍ تُدَارُ فِيهِ الصِّرَاعَاتُ بِالهَنْدَسَةِ وَالتَّدَفُّقِ قَبْلَ السِّلَاحِ، تُصْبِحُ الدُّوَلُ الَّتِي تُحْسِنُ قِرَاءَةَ المَاءِ، أَكْثَرَ قُدْرَةً عَلَى المواجهة حيث يَكْشِفُ التَّدَاخُلُ العَمِيقُ بَيْنَ الأَمْنِ القَوْمِيِّ المَائِيِّ وَحُرُوبِ المِيَاهِ عَنْ تَحَوُّلٍ جَذْرِيٍّ فِي طَبِيعَةِ الصِّرَاعَاتِ الدُّوَلِيَّةِ، حَيْثُ لَمْ يَعُدِ الخَطَرُ يَأْتِي دَائِمًا فِي شَكْلِ جُيُوشٍ زَاحِفَةٍ أَوْ تَهْدِيدَاتٍ عَسْكَرِيَّةٍ مُبَاشِرَةٍ، بَل فِي صُورَةِ تَغْيِيرٍ صَامِتٍ فِي تَدَفُّقِ الحَيَاةِ نَفْسِهَا. فَالمَاءُ، الَّذِي كَانَ عَبْرَ التَّارِيخِ رَكِيزَةَ الاِسْتِقْرَارِ وَمِفْتَاحَ النَّهْضَةِ، أَصْبَحَ فِي العَالَمِ المُعَاصِرِ أَدَاةً لِإِعَادَةِ تَرْتِيبِ مَوَازِينِ القُوَّةِ وَفَرْضِ أَنْوَاعٍ جَدِيدَةٍ مِنَ السَّيْطَرَةِ غَيْرِ المُعْلَنَة.

ولذلك فإِنَّ التَّعَامُلَ مَعَ المَاءِ كَمَلَفٍّ خِدْمِيٍّ أَوْ قَضِيَّةٍ فَنِّيَّةٍ لَمْ يَعُدْ يَعْكِسُ وَاقِعَ التَّحَدِّيَاتِ القَائِمَةِ. فَالدُّوَلُ الَّتِي تَتَجَاهَلُ الأَبْعَادَ السِّيَاسِيَّةَ وَالأَمْنِيَّةَ لِلْمِيَاهِ، تُخَاطِرُ بِأَنْ تَجِدَ نَفْسَهَا فِي مُوَاجَهَةِ أَزْمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ تَبْدَأُ بِالزِّرَاعَةِ وَالغِذَاءِ، وَلَا تَنْتَهِي عِنْدَ حُدُودِ الِاسْتِقْرَارِ المُجْتَمَعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ. وَهُنَا يَتَحَوَّلُ النَّهْرُ مِنْ مَجْرًى طَبِيعِيٍّ إِلَى مِحْوَرِ قَرَارٍ اِسْتِرَاتِيجِيٍّ، يَفْرِضُ عَلَى الدَّوْلَةِ أَنْ تُعِيدَ تَعْرِيفَ أَمْنِهَا وَأَوْلَوِيَّاتِهَا.

 

وَفِي سِيَاقِ الدُّوَلِ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى أَنْهَارٍ عَابِرَةٍ لِلْحُدُودِ، لَا يَكُونُ الصِّرَاعُ حَوْلَ المَاءِ صِرَاعًا عَلَى كَمِّيَّاتٍ فَقَطْ، بَل عَلَى مَنْ يَمْتَلِكُ حَقَّ التَّأْثِيرِ فِي المُسْتَقْبَلِ. فَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّحَكُّمِ فِي المَاءِ تَعْنِي القُدْرَةَ عَلَى التَّحَكُّمِ فِي إِيقَاعِ التَّنْمِيَةِ، وَفِي هَامِشِ الحَرَكَةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَفِي خِيَارَاتِ الدَّوْلَةِ الاِسْتِرَاتِيجِيَّةِ.

 

وَمِنْ هُنَا، فَإِنَّ مُوَاجَهَةَ حُرُوبِ المِيَاهِ لَا تَكُونُ بِالتَّصْعِيدِ المُبَاشِرِ وَحْدَهُ، وَلَا بِالدِّبْلُومَاسِيَّةِ المُجَرَّدَةِ، بَل بِبِنَاءِ نَمُوذَجٍ شَامِلٍ لِلأَمْنِ المَائِيِّ يَرْبِطُ بَيْنَ التَّنْمِيَةِ وَالتَّحْصِينِ وَالاسْتِشْرَافِ المُبَكِّرِ لِلْمَخَاطِرِ. نَمُوذَجٍ يُدْرِكُ أَنَّ تَأْمِينِ المَاءِ هُوَ فِي جَوْهَرِهِ تَأْمِينٌ لِلزَّمَنِ القَادِمِ، وَلَيْسَ فَقَطْ إِدَارَةً لِأَزْمَاتِ الحَاضِرِ.

 

وَفِي عَالَمٍ تَتَقَاطَعُ فِيهِ أَزْمَاتُ المِنَاخِ مَعَ تَحَوُّلَاتِ السِّيَاسَةِ الدُّوَلِيَّةِ، تَصْبِحُ الدَّوْلَةُ الَّتِي تَسْتَثْمِرُ فِي مَنَاعَتِهَا المَائِيَّةِ، وَتُحْسِنُ قِرَاءَةَ النَّهْرِ كَمَجَالِ قُوَّةٍ لَا كَمُجَرَّدِ مَوْرِدٍ، هِيَ الأَقْدَرُ عَلَى حِفْظِ بَقَائِهَا وَتَثْبِيتِ مَكَانَتِهَا فِي نِظَامٍ دُوَلِيٍّ يَعَادُ تَشْكِيلُهُ قَطْرَةً بَعْدَ قَطْرَةٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى