سلسلة أسماء الله الحسنى .. معنى اسم الله الغفور

كتبت سوزان مرمر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لله تسعة وتسعون اسم مائة الا واحدة من احصاها دخل الجنة
نطرق اليوم – إن شاء الله تعالى – اسمًا آخرَ من أسماء الله الحسنى البديعةِ، التي تربطُ المسلمَ بربه ربطًا قويًّا، ويُحسُّ بحاجته إليها حاجةً بليغة؛ اسمًا تفضَّل اللهُ تعالى بجليل آثارِه على الناس؛ حتى يقوموا من كبوتهم، ويرجعوا إلى ربهم، ويُجدِّدوا الإيمانَ في قلوبهم، ويدفعوا عنهم اليأسَ والقنوطَ، والتذمُّرَ والحُبوط؛ إنه اسمُ الله “الغفور”، الذي ورد في كتاب الله مع اسمِ الله “الغفار” و”الغافر” وباقي المشتقات 235 مرة؛ تدليلًا على أهميته من جهةٍ، وتفضُّله سبحانه بمغفرة ذنوبِ المذنبين، ومعاصي العاصين، من جهة أخرى؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110]، وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾ [نوح: 10]، وقال تعالى: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ﴾ [غافر: 3]، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا تضَوَّرَ (تقلَّب) مِنَ الليلِ قال: ((لا إلهَ إلا اللهُ الواحدُ القهارُ، ربُّ السماواتِ والأرضِ وما بينَهُما العزيزُ الغفارُ))؛ صحيح الجامع.
والغفار هو: الذي أظهَرَ الجميلَ، وستَر القبيحَ في الدنيا، وتجاوَزَ عن عقوبته في الآخرة، والغفور هو: كثيرُ المغفرة، وجاءَا على صيغة المبالغة؛ لأنه سبحانه يغفرُ الذنوبَ مهما كثُرت، ويمحو الخطايا مهما عظُمت، ويفعلُ ذلك مرةً بعد مرةٍ إلى ما لا يحصى.
وأصلُ المغفرة: التغطيةُ والسترُ، والله تعالى ساترٌ لذنوب عباده، متجاوزٌ عن أخطائهم وعيوبِهم؛ قال الحليمي: “الغافر: هو الذي يسترُ على المذنب، ولا يؤاخذُه فيشهِّرُه ويفضحُه، وأما الغفورُ، فهو الذي يكثُرُ منه السترُ على المذنبين من عباده، ويزيدُ عفوُه على مؤاخذتِه”.
وحُق للمسلم أن يستبشرَ بهذا الاسم العظيم، واتصافِ ربِّنا عز وجل بصفة المغفرةِ؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: “فيا لها من بشارة ترتاحُ لها قلوبُ المؤمنين المحسنين ظنَّهم بمن لا يتعاظمُه ذنبٌ، ولا يبخلُ بمغفرته ورحمته على عباده المتوجِّهين إليه في طلب العفوِ، الملتجئين له في مغفرةِ ذنوبهم”.
وفيه دليلٌ قويٌّ على ضرورة تجنُّبِ تقنيطِ عباد اللهِ، وتصويرِ الحياة لهم مظلمةً مقفرةً؛ قال السعدي رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ﴾ [الزمر: 53]: “أي: كثيرُ المغفرة والرحمة، عظيمُهما، بليغُهما، واسعُهما، ومن أبَى هذا الفضلَ العظيم، والعطاءَ الجسيم، وظنَّ أن تقنيطَ عبادِ الله وتأييسَهم من رحمته أولى بهم مما بشَّرهم اللهُ به، فقد ركِب أعظمَ الشطَط، وغَلِط أقبحَ الغلَط”.
فمهما عظُمت ذنوبُ العبد، فإن مغفرةَ اللهِ أعظمُ منها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الشَّيطانَ قال: وَعِزَّتِكَ يا ربِّ، لا أَبْرَحُ أُغوِي عِبادَكَ مَا دامتْ أرواحُهم في أجسادِهم، قال الربُّ: وَعِزَّتِي وجلالي، لا أزالُ أَغفرُ لهم ما استغفروني”؛ أحمد، وهو حسن.
حتى الشِّرك، فإن اللهَ يتوبُ على من تاب منه وأناب؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
وقد يرى أحدُنا ذنوبَه جبلًا من الجبال كثرةً وفظاعة، ثم يستبشرُ بمغفرة اللهِ إن أخلَصَ التوبةَ له؛ قال الله تعالى في الحديث القدسيِّ: ((يا بنَ آدمَ، إنك ما دعوتَني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغَتْ ذنوبُك عَنانَ السماءِ ثم استغفرتني، غفرتُ لك ولا أبالي، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ (بملء) الأرضِ خطايا ثم لقيتني لا تُشركُ بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرةً))؛ صحيح [سنن الترمذي].
وهو الغفورُ فلو أتى بقُرابِها
من غير شِركٍ بل من العصيانِ
لأتاهُ بالغُفران ملءَ قُرابها
سبحانَه هو واسعُ الغفرانِ
ولقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم – وهو النبي المعصوم – لا يفترُ لسانُه عن ذكر اسمِ الله الغفور.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان يُعَدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائةَ مرةٍ من قبل أن يقومَ: ((ربِّ اغفر لي وتبْ عليَّ؛ إنك أنت التوابُ الغفور))؛ صحيح [سنن الترمذي].
وهذا أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ، علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: ((قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي من عندك مغفرةً، إنك أنت الغفورُ الرحيمُ))”؛ متفق عليه.
غيرَ أن هذه المغفرةَ منوطةٌ بتوبة صادقةٍ، وأوبةٍ صالحةٍ؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 25]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].
بل إن التوبةَ الصادقةَ تجعلُ السيئاتِ حسناتٍ، والدرَكَاتِ درجاتٍ؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
ومِن فِقهِ هذا الاسمِ الجليل دروسٌ مهمةٌ، منها:
1- الإكثارُ من الاستغفار، وسؤالُ الله التجاوزَ عن الذنوب؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفرُ اللهَ في اليوم مائةَ مرة))؛ مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من قال: أستغفرُ اللهَ العظيم الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه، غُفر له وإن كان فرَّ من الزحف))؛ صحيح سنن الترمذي.
يا مَن عدَا ثم اعتدى ثم اقترفْ
ثم ارعوى ثم انتهى ثم اعترفْ
أبشِرْ بقول اللهِ في آياته
إن يَنتهوا يُغفرْ لهم ما قد سلفْ
2- الوعي بأهمية التغَافُرِ بيننا، ونشر فِقهِ الصفحِ والتسامح، وبخاصة ونحن في زمنٍ كثُرت فيه الخصومات، وتعاظمتْ فيه الاعتداءاتُ، حتى إن القضايا الجنائيةَ أصبحت تلتهمُ نصفَ القضايا المعروضة على المحاكم المغربيَّة التي تبلغُ أزيدَ من ثلاثة ملايين ونصف، بما فيها قضايا العنفِ والظلم والاعتداء؛ من سرقةٍ، وضرب، بل والقتل، الذي امتدت يدُه إلى قتل بعض الأمهاتِ لأولادهن وبناتهن، في غياب واضحٍ لقيم التسامحِ والتجاوز والتغاضي.
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون ﴾ [الشورى: 37]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرُكم بمن يُحرَّم على النار، أو بمن تحرُم عليه النارُ؟ على كل قريبٍ، هيِّن، ليِّن، سهل))؛ صحيح سنن الترمذي.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: “ما أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم في شيء فيه قصاصٌ إلا أمَر فيه بالعفو”؛ صحيح سنن النسائي.


