رمسيس الثاني “مرآة الهوية المصرية “.

بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة
يقول العم صلاح جاهين:
“على اسم مصر التاريخ وهي يقدر يقول ما شاء.
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء.
بحبها مالكة الأرض شرق وغرب.
وحبها وهي مرحبة جريحة حرب بحبها بعنف وبرقة واستحياء…….. ” وعجبي
هناك من كان لهم الفضل في تأصيل الهوية وتعزيز الانتماء ويأتي على رأسهم رمسيس الثاني ففي كل مرة يطلّ فيها اسم رمسيس الثاني( رَع-مِس-سِ )
على الذاكرة المصرية، نشعر أننا لا نستدعي ملكًا من الماضي بقدر ما نستدعي أحد الأعمدة التي شُيِّدت عليها الشخصية المصرية ذاتها. فالرجل الذي حكم مصر قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام لم يبقَ مجرد صفحة في سجل الفراعنة، بل صار رمزًا مكثّفًا لهوية تحرس نفسها من النسيان، وتصرّ على أن تبقى حيّة مهما تبدلت الأزمنة.
رمسيس الثاني لم يكن قائدًا عسكريًا يقف عند حدود الانتصار والهزيمة، بل مهندسًا لرؤية حضارية أعاد من خلالها تشكيل صورة مصر في وجدان شعبها وفي وعي العالم. المعابد التي شيدها—من أبو سمبل إلى الرمسيوم—ليست كتلًا حجرية صامتة، بل “دفاتر هوية” منقوشة على جدران الزمن، تصوغ سردية مصر بوصفها حضارة تعرف كيف تُخلّد نفسها وتدافع عن وجودها بالفن كما بالدروع.
من يتأمّل أثر رمسيس يدرك أنه أعاد تعريف معنى “الانتماء”. فمصر عنده لم تكن حدودًا جغرافية، بل مشروع خلود، ورؤية شاملة تقف عند مفترق القوة والروح. لقد جعل من معاركه—بما فيها معركة قادش—أيقونات للصمود، ومن أعماله العمرانية جسرًا ثقافيًا يصل بين الماضي والمستقبل. وهكذا صار رمسيس واحدًا من أولئك الذين فهموا أن الهوية لا تُصنع بالشعارات، بل بالفعل والمعنى، وبخلق صورة حضارية قادرة على أن تتجدد عبر الزمن.
وتكمن عمق التجربة الرمزية لرمسيس في هذا الحوار الأزلي بين الفناء والخلود، بين الإنسان العابر والأثر الباقي، بين الزمن الذي يطوي الأجساد والزمن الذي تُخلّده الأعمال. لذلك تحوّل رمسيس إلى حالة فلسفية أكثر منه حالة تاريخية؛ إلى سؤال مفتوح حول كيف يستطيع شعب ما أن يصنع لنفسه مكانًا في سجل الإنسانية، لا بالهيمنة بل بقدرة حضارته على الإلهام.
واليوم، بينما تبحث مصر المعاصرة عن تعزيز مكانتها في عالم متغير، يبدو استدعاء رمسيس الثاني ضرورة لا ترفًا؛ فهو النموذج الذي يعيد تذكيرنا بأن الهوية المصرية ليست مجرد ماضٍ نتغنّى به، ولا سردية قومية منغلقة، بل كيان روحي وثقافي قادر على استيعاب العالم والانفتاح عليه من دون أن يتخلى عن جذوره.
لذلك يبقى رمسيس الثاني—برغم المسافة الزمنية الهائلة—حاضرًا في وجدان المصريين. نجمًا لا يخفت ضوؤه فوق سماء حضارتهم، ودليلًا على أن قوة مصر لا تكمن في ما مضى فقط، بل فيما تركه ذلك الماضي من قدرة على بث الأمل والدفع نحو المستقبل.
وفي الأخير ، ينهض رمسيس الثاني كأيقونة لا تشبه سواها؛ رمزًا نابضًا بقدرة مصر على الاستمرار، ومرآة تتجلى عليها قوة الأرض والروح والإنسان معًا. فهو يذكّرنا بأن الهوية لا تقوم بلا ذاكرة، وأن الذاكرة لا تبقى حيّة بلا رموز كرمسيس، الذي يواصل حمل شعلة الحضارة المصرية، نورًا ثابتًا لا يخبو مهما تعاقبت العصور.



