تقييم تأثير تلوث الهواء على المتغير المناخي

بقلم – م.أ.منال كامل الإسكندراني
المدير التنفيذي لمؤسسة تمكين للدراسات،وباحث اكاديمي
منذ أن بدأت مسيرتي البحثية في مجال تقييم تأثير تلوث الهواء على المتغير المناخي، أدركت أن هذا التخصص ليس مجرد دراسة علمية جامدة، بل هو رحلة عميقة في فهم العلاقة الدقيقة بين الإنسان والطبيعة، وبين النشاط الصناعي والأنظمة البيئية الحساسة التي تحيط بنا.
بداية الوعي العلمي
خلال سنوات دراستي وأبحاثي الميدانية، لاحظت كيف أن تلوث الهواء لم يعد يقتصر على كونه مشكلة صحية تؤثر في الجهاز التنفسي فقط، بل أصبح أحد أبرز المحفزات المباشرة لتغير المناخ. فارتفاع تركيز الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون (CO₂) وأكاسيد النيتروجين (NOx) والميثان (CH₄) يؤدي إلى اختلال ميزان الطاقة في الغلاف الجوي، مما يسبب تغيرات في أنماط الحرارة والأمطار والرياح.
ما كان يدهشني خلال عملي هو كيف يمكن لجزيئات دقيقة غير مرئية، مثل الجسيمات العالقة (PM2.5 وPM10)، أن يكون لها أثر هائل على المناخ وعلى صحة الإنسان في آنٍ واحد. فهي تمتص وتبعثر الإشعاع الشمسي، وتؤثر على تكوين السحب، وبالتالي على دورة المياه في الطبيعة.
بين البحث والميدان
في أثناء عملي كباحثة، قمت بعدة زيارات ميدانية لمحطات الرصد البيئي في مناطق حضرية وصناعية، حيث كانت أجهزة القياس تكشف لنا يومًا بعد يوم عن حقيقة مقلقة: أن النشاط الإنساني غير المنظم ما زال المصدر الرئيس للتلوث، بدءًا من عوادم المركبات، مرورًا بمحطات الطاقة، وانتهاءً بعمليات التعدين الثقيلة.
التعدين وتأثيره البيئي
من خلال دراساتي، وجدت أن قطاع التعدين يعد من أكثر القطاعات التي تترك بصمة بيئية واضحة على الهواء والمناخ. عمليات استخراج المعادن وتكريرها تطلق كميات كبيرة من الجسيمات العالقة والمعادن الثقيلة والغازات الملوثة. هذه الانبعاثات لا تقتصر على تلويث الهواء المحيط فقط، بل تمتد لتؤثر على الدورات المناخية الإقليمية من خلال زيادة تركيز الملوثات في الغلاف الجوي.
كما أن إزالة الغطاء النباتي في مناطق التعدين تساهم في ارتفاع درجات الحرارة محلياً، وتقلل من قدرة التربة على امتصاص الكربون، مما يضاعف من حدة ظاهرة الاحتباس الحراري.
أبعاد اجتماعية وصحية
من منظور بيئي وصحي، وجدت في أبحاثي أن التأثير المناخي لتلوث الهواء لا يمكن فصله عن أثره الاجتماعي. فالمجتمعات القريبة من المناطق الصناعية والتعدينية تعاني من نسب أعلى من الأمراض التنفسية والقلبية، فضلاً عن تدهور جودة الحياة. وهذا يفرض علينا كخبراء وباحثين مسؤولية مضاعفة في توجيه السياسات العامة نحو حلول متوازنة تراعي الاقتصاد والبيئة معاً.
نحو مستقبل أكثر استدامة
أؤمن أن الحل لا يكمن فقط في رصد الملوثات وتحليلها، بل في تغيير فلسفة التعامل مع البيئة. نحن بحاجة إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات، يعتمد على الطاقة النظيفة والتقنيات الحديثة في إعادة التدوير والرقابة البيئية.
كما أن رفع الوعي العام، خصوصاً بين الأجيال الشابة، يعد خطوة أساسية في بناء ثقافة بيئية قادرة على حماية مستقبل المناخ.
ختاما……..
من خلال تجربتي كباحثة، تعلمت أن الهواء الذي نتنفسه هو مرآة لأفعالنا، وأن كل جزيء ملوث في الغلاف الجوي يحمل بصمتنا كبشر. الحفاظ على نقاء الهواء ليس ترفاً علمياً، بل هو واجب أخلاقي وإنساني.
وإذا كنا اليوم في سباق مع الزمن لاحتواء آثار التغير المناخي، فإن البداية الحقيقية تكون من هنا: من تقليل التلوث، وترسيخ ثقافة الاستدامة في كل مجال من مجالات حياتنا.
				
					


