بقلم – د. نبيلة رشدى
تُعدّ الرواية المصرية نافذة واسعة على الهوية الحضارية لمصر، فهي تُحوّل المكان إلى بطل سردي قائم بذاته، ولا تكتفي بمجرد سرد الأحداث وتصوير الشخصيات، ومن هنا نشأت فكرة السياحة الأدبية، أي تتبّع القارئ للأمكنة التي وردت في النصوص الروائية لزيارتها واستعادة التجربة القرائية على أرض الواقع، وإذا كانت مصر معروفة بآثارها القديمة ومعالمها التاريخية، فإن الرواية المصرية أضافت بعدًا جديدًا يتمثل في تحويل الحارة والمدينة والريف والبحر إلى محطات سياحية ثقافية تكشف عن عمق الهوية المصرية.
نجيب محفوظ والحارة المصرية:
يبقى نجيب محفوظ رائد السياحة الأدبية في الرواية المصرية، إذ جعل من الحارة فضاءً عالميًا يمكن للقارئ أن يزوره ويتأمل تفاصيله، في الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، تتجسد القاهرة القديمة بأزقتها وبيوتها وأسواقها، فتغدو وثيقة حية لمرحلة تاريخية، وفي زقاق المدق تحولت الحارة الصغيرة إلى أيقونة يقصدها القرّاء والزوّار للتعرف على حياة الطبقة الشعبية المصرية، أما خان الخليلي فقدّم صورة حي نابض بالحياة، ما جعل الخان نفسه قبلة للسياحة الأدبية.
يحيى حقي وصراع التقاليد والحداثة:
في روايته قنديل أم هاشم أبرز يحيى حقي التوتر بين الموروث الشعبي- ممثلاً في مقام السيدة زينب والقنديل المقدّس- وبين قيم العلم الحديث، هذا المزج جعل من الرواية وسيلة للتعريف بملامح القاهرة الشعبية، وبالعمق الروحي والاجتماعي الذي يشكل جزءًا أساسيًا من الهوية المصرية.
عبد الرحمن الشرقاوي والريف المصري:
قدّم الشرقاوي في روايته (الأرض) صورة متكاملة للريف المصري، حيث أضحت الأرض عنوانًا للكرامة والانتماء، هذه الرواية جعلت القرية المصرية فضاءً يُقرأ ويُزار، وأكدت على البعد الزراعي المتجذّر في الهوية الحضارية لمصر.
إدوار الخراط والإسكندرية المتوسطية:
في رواياته مثل (رامة والتنين وترابها زعفران)، جسّد الخراط مدينة الإسكندرية بوصفها فضاءً متعددًا الثقافات، حيث البحر والميناء والمدينة القديمة كلها تحولت إلى رموز أدبية وسياحية في آن، مما كشف عن الوجه الكوزموبوليتاني لمصر وهويتها المنفتحة على المتوسط.
صنع الله إبراهيم وصورة القاهرة الحديثة:
من خلال روايات مثل (اللجنة وذات)، عكس صنع الله إبراهيم صورة القاهرة في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية، فالقاهرة هنا مدينة معاصرة تكشف تناقضات الهوية المصرية بين الانكسار والمقاومة، ما يجعلها وجهة أدبية للباحثين عن فهم العمق الاجتماعي والسياسي لمصر الحديثة.
علاء الأسواني وعمارة يعقوبيان:
قدّم علاء الأسواني في روايته عمارة يعقوبيان صورة شديدة الرمزية للقاهرة الحديثة، العمارة نفسها تحولت إلى معلم سياحي-أدبي يجمع بين شرائح مختلفة من المجتمع: الأغنياء والفقراء، المثقفون والبسطاء، المهاجرون والأصليون. هكذا صارت الرواية جواز سفر للتعرف على ملامح مصر في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين.
من محفوظ إلى الأسواني، مرورًا بيحيى حقي والشرقاوي والخراط وصنع الله إبراهيم، أثبتت الرواية المصرية أنها ليست مجرد نصوص تُقرأ، بل خرائط تُزار، إنها تجعل من الأمكنة ذاكرة حيّة تعكس الهوية الحضارية لمصر، وتجعل السياحة الأدبية جسراً بين النص والواقع، وهكذا تتحول مصر في الرواية إلى نص مفتوح وساحة للزيارة، حيث يجد القارئ نفسه سائحًا في الأزقة والحقول والموانئ والعمارات… باحثًا عن هوية كتبتها الكلمة وحفظها المكان.