رينال عُويضة تكتب “المتحف المصري الكبير.. أنشودة الخلود على ضفاف الزمن”

في صباحٍ مهيب، بدا المشهد كأنه انبعاث جديد لمجدٍ قديم، فاليوم، لا تفتتح مصر متحفاً فحسب، بل تفتح للعالم بوابةً نحو الخلود.
المتحف المصري الكبير، الحارس الجديد لذاكرة الأجداد، يطلّ على الأهرامات كأنه الابن الذي عاد إلى حضن أبيه بعد غيابٍ طويل، ليكمل السلسلة الذهبية التي لم تنقطع يوماً بين الإنسان والزمن.
البداية… حين يكتب الضوء قصيدته
على الضفة الغربية للنيل، حيث تغفو الرمال وتنتبه الشمس، يرتفع البناء كقصيدةٍ من حجرٍ وحديدٍ وزجاج. تصميمه المعماري لا يصف الماضي بل يستحضره، كأن الحوائط تنطق بما خبأته القرون، وكأن الضوء الذي يتسلّل من الزوايا هو امتدادٌ للوهج الفرعوني القديم.
في قلب البهو الرئيسي، يقف رعمسيس الثاني شامخاً كأنه سيد الزمن، يطلّ على الزائرين بوقار الملوك وهدوء من يعرف أن حضارته لا تزول. من حوله، تسير خطوات الزائرين على أنغام التاريخ، فيشعر كل من يعبر المكان أنه ليس مجرد متفرّج على آثار، بل شاهد على بعثٍ حضاريٍّ عظيم.
كنوزٌ خرجت من الصمت
من عمق وادي الملوك، إلى أروقة العرض الزجاجية المضيئة، تجتمع مجموعة الملك توت عنخ آمون كاملة للمرة الأولى منذ اكتشاف مقبرته. آلاف القطع التي كانت ترقد في ظلال التاريخ، تستيقظ اليوم لتروي قصصها من ذهبٍ ومسكٍ وضوء.
ليست الكنوز في المتحف مجرد مقتنياتٍ فرعونية، بل هي حروفٌ من نصٍ أبديّ، سطرته مصر لتقول: “نحن لم نكن يوماً عابرين على وجه الأرض، نحن الذين جعلناها كتاباً مفتوحاً للحياة”.
بين الفن والسياسة… بين الذاكرة والمستقبل
افتتاح المتحف ليس مجرد حدث ثقافي؛ إنه إعلان سيادة حضارية. فمصر بهذا الصرح لا تعرض ماضيها فقط، بل تضعه في مواجهة العالم كبرهانٍ على أن التاريخ يمكن أن يكون مشروعاً للمستقبل.
الحدث جمع بين الفن والدبلوماسية، بين الإبداع والهوية، بين الرمز والواقع الاقتصادي الذي تراهن عليه الدولة لتجعل من الثقافة رافعةً للتنمية، لا ترفاً للنخبة.
تجربة الحواس والروح
يدخل الزائر المتحف، فلا يكتفي بالمشاهدة، بل يشارك في حوارٍ مع الزمن. الشاشات التفاعلية، الإضاءة الذكية، والموسيقى التي تتسلّل بخفةٍ إلى الأعماق، كلها تجعل التجربة أقرب إلى طقسٍ روحانيٍّ منها إلى زيارةٍ عابرة.
إنه متحف لا يُخاطب العين فحسب، بل الوجدان أيضاً؛ متحفٌ يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والأثر، بين الحاضر والسرّ.
مصر… حين تكتب نفسها من جديد
الليلة، حين تُضاء الواجهة بالأنوار الذهبية وتعكسها عيون العالم، تدرك أن مصر لم تفتتح متحفاً، بل استعادت لحظة الوعي بذاتها.
هذا الصرح ليس حجرًا يعلو فوق حجر، بل وعدٌ يتجدّد بأن الحكاية التي بدأت قبل سبعة آلاف عام، لا تزال تُروى، وبأن المصري القديم الذي رفع الأهرامات ما زال يعيش فينا، يُلهمنا، ويمدّنا بطاقة البقاء.
في هذا اليوم، لم تفتح مصر أبواب المتحف فحسب، بل فتحت أبواب الزمن.
لتقول للعالم من جديد:هنا الحضارة تبدأ، وهنا تظلّ لا تموت..



