المتحف المصري الكبير… حين تنهض الهوية من أعماق الوعي الجمعي

بقلم: بهجت العبيدي
إن افتتاح المتحف المصري الكبير لا يأتي كحدث ثقافي عابر يضاف إلى سجل منجزات الدولة المصرية الحديثة، بل هو أشبه بعودة الذاكرة الوطنية من رحلة اغتراب طويلة إلى ذاتها الأولى؛ إلى ذلك العمق الحضاري الذي شكّل، عبر آلاف السنين، ملامح الشخصية المصرية، وملأ وعيها الجمعي بالإحساس الدائم بالعظمة والخلود.
منذ اللحظة الأولى للإعلان عن افتتاح المتحف، بدا واضحا أن ما يحدث لا يخص فئة من المهتمين بالآثار أو النخبة الثقافية وحدهم، بل هو حالة وجدانية شاملة امتدت إلى كل بيت، وإلى كل قلب ينبض على أرض مصر. لقد خرج المصريون من اختلافاتهم الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية، ليتوحدوا حول رمز جامعٍ يمثلهم جميعا: حضارتهم.
إن اللافت في هذا المشهد، أن الاحتفاء بالمتحف لا يقتصر على الدعوة لزيارة المكان أو متابعة نشرات الأخبار، بل تعدّى ذلك إلى تفاعل رقمي مدهش، حيث لجأ الملايين من المصريين إلى برامج الذكاء الاصطناعي لتوليد صور شخصية لهم بالزي الفرعوني، وكأنهم يسعون — بوعيٍ أو دون وعي — إلى إعادة الاتصال بسلسلة النسب الحضاري الممتدة من أجدادهم القدماء إلى حاضرهم المعاصر.
تلك الصور التي ملأت وسائل التواصل لم تكن مجرد “موضة” أو رغبة في الترفيه، بل كانت تعبيرا عميقا عن انبعاث الهوية، واستعادة رمزية الجذور المصرية القديمة في زمنٍ كثرت فيه الهويات المستعارة.
ومن المدهش أن تلك الموجة العارمة من الفخر الوطني والاحتفاء بالحضارة المصرية ذابت فيها تماما الأصوات التي اعتادت تشويه مثل هذه اللحظات؛ الأصوات التي لطالما نظرت إلى الآثار والتاريخ الفرعوني باعتبارهما “وثنية” أو “محرّمات”، فإذا بها اليوم تصمت أمام طوفان البهجة الشعبية، وكأن الوعي الجمعي للأمة المصرية قد قرر أن يُنهي تلك الجدالات العقيمة، ويحتضن تاريخه بكل ما فيه من نور وخلود.
إن المتحف المصري الكبير ليس فقط الأكبر في العالم من حيث المساحة أو عدد القطع الأثرية، بل هو تجسيد لفلسفة معمارية وثقافية تمزج بين عبقرية المصري القديم وإبداع المصري الحديث. ففي هندسته الباهرة نرى تزاوجا بين الماضي والمستقبل، بين الحجر المنحوت في معابد الكرنك، والزجاج المصقول الذي يعانق ضوء الألفية الثالثة.
لقد أثبت الاهتمام المذهل من المصريين بالمتحف أن الهوية المصرية ليست جامدة، بل هي كيان حيّ قادر على امتصاص ما يمر به من حضارات، ثم إعادة صياغتها وفق روحه الخاصة. فمنذ الفراعنة إلى الإغريق والرومان، مرورا بالعصر القبطي والإسلامي، وحتى اليوم، ظل المصري يضيف إلى هويته طبقة جديدة دون أن يفقد جوهره الأول.
وربما كانت تلك هي الخصوصية الكبرى للشخصية المصرية: قدرتها على التفاعل مع الزمن دون أن تُبتلع فيه، وعلى استقبال الجديد دون أن تتنكر لجذورها. إن المصري، حين يحتفي بالمتحف المصري الكبير، لا يحيي الماضي فحسب، بل يعلن انتصار الحاضر، ويؤسس لجسر من الوعي يربط بين الأهرام وبين المستقبل.
لقد نجح المتحف المصري الكبير في أن يكون أيقونة للهوية المصرية الحديثة، لا لأنه يضم آثار الملوك وحدها، بل لأنه أيقظ في قلوب البسطاء إحساسا عميقا بالانتماء، وأعاد صياغة العلاقة بين المصري وتاريخه، لا على أنها مادة دراسية جامدة، بل كحكاية مستمرة يكتبها الشعب بنفسه.
وهكذا، لم يعد المتحف مجرد بناء ضخم على أطراف الجيزة، بل أصبح مرآة كبرى تعكس وجه مصر الحقيقي: ذلك الوجه الذي يجمع بين الأصالة والتجدد، بين الإيمان والخلود، بين الحجر القديم والعقل المعاصر… وجه مصر الذي لا يشيخ، ولا يتوقف عن الدهشة والإلهام.
 
				 
					


