روزاليوسف بعد مئة عام.. وسيدات مصر والعالم

بقلم: نهلة سليم

عضو نقابة الصحفيين الألمانية

وباحثة في الشأن الثقافي المصري–الألماني

إلى السيدة فاطمة اليوسف (روزاليوسف)

إلى سيدة الصحافة الأولى في مصر والعالم العربي،

إلى من آمنت بحق الإنسان في العمل والإبداع والكلمة الحرة،

إلى من أسست مدرسة في الفكر والجرأة ما زالت تنير طريق الأجيال حتى اليوم.

 

إليكِ يا من حملتِ القلم سلاحًا في وجه التهميش والظلم،

وقلتِ للعالم إن الإرادة أقوى من القيود،

وإن صوت الحق لا يُكمم مهما اشتدت العواصف.

 

مئة عام من الفكرة والجرأة

 

في الذكرى المئوية لإصدار أول عدد من مجلة روزاليوسف، نعود بالذاكرة إلى تلك اللحظة التاريخية التي غيّرت وجه الصحافة العربية.

كانت البداية مع سيدة مصرية آمنت أن الدفاع عن الفن والفنانين قضية إنسانية قبل أن تكون مهنية، فقررت أن تؤسس مجلة تدافع عن زملائها من الفنانين الذين رأت أنهم مهمّشون في مجتمع لا يمنحهم حقوقهم، وينظر إليهم نظرة دونية، حتى إن المحكمة في ذلك الزمن لم تكن تقبل شهادة “المشخّصاتي”.

 

هنا ظهرت فاطمة اليوسف، سيدة من طراز نادر، خرجت من بين آلاف السيدات العربيات والأوروبيات لتقول للعالم إن العمل والكرامة ليسا حكرًا على الرجال.

في زمنٍ كان يُحصر فيه دور المرأة داخل جدران البيت — حتى المتعلمات منهن كنّ يتوقفن عند حدّ معين انتظارًا للزواج أو الانشغال بتربية الأبناء — خرجت فاطمة اليوسف لتكسر القيد وتُثبت أن للمرأة عقلًا وقلمًا وإرادة لا تقل عن أي رجل.

 

لو استسلمت كل النساء لتلك الصورة النمطية، هل كنا اليوم سنحتفل بمجلة تحمل اسم امرأة في مجتمع ذكوري؟

لكنها فعلت. قاومت. تحدّت. وصنعت مجدها بإرادة من حديد.

 

الاسم الذي بقي خالدًا

 

اختارت فاطمة اليوسف أن تحمل مجلتها اسمها الفني “روزاليوسف” لتظل العلامة ثابتة على مرّ السنين.

وبعد مئة عام، ما زال الاسم نفسه يحمل عبق القوة والصمود.

لم يكن مجرد عنوان لمجلة، بل رمزًا لامرأة واجهت التهديد بالسجن، وصمدت حين كان ابنها الصغير إحسان يُعتقل لمجرد أنه ورث منها الموهبة والجرأة.

 

ذلك الابن الذي لم يعش في ظل والدته فحسب، بل تشبّع من رحمها بروح التحدي والإصرار.

صار كاتبًا عظيمًا، حمل القلم من بعدها ليواصل المسيرة:

إحسان عبد القدوس، الذي تحوّلت رواياته إلى أيقونات في الأدب والسينما والمجتمع المصري، وأصبحت أعماله رمزًا للحب والعدل والمنطق والحرية.

 

إحسان… ابن المدرسة الأولى

تعلمنا من رواياته كيف يكون الالتزام والوفاء، وتعلّم الأطفال والشباب من قصصه معنى الوطنية.

في رواية «إمبراطورية م» كانت الدروس موجّهة للأجيال، تحثهم على تجنب التدخين، وعلى احترام الذات والانضباط.

وفي أعماله الأخرى، مثل «الرصاصة لا تزال في جيبي»، رسّخ إحسان فينا معنى أن الوطنية ليست شعارات، بل استعداد دائم للتضحية.

تلك «الرصاصة» التي حملها في رمزية عميقة عبرت من الهزيمة إلى النصر، لتصبح شعارًا لجيل بأكمله.

يقول بها بأن النضال مستمر ومستعد إذا استهان به عدوه فالرصاصة لاتزال في جيبه لتكون حاضره عند اللزوم .

إحسان عبد القدوس لم يكن بعيدًا عن الضباط الأحرار، بل كان قريبًا منهم ومن الرئيس جمال عبد الناصر نفسه.

لكن صدقه وحرية قلمه — اللذان ورثهما عن والدته — جعلاه يكتب بجرأة وشفافية، فدفع ثمن الكلمة سجنًا على يد من كان يومًا يدافع عنهم.

غير أن السجن لم يُضعف عزيمته، بل زاده إيمانًا بأن الكلمة الصادقة أقوى من السلاح، فخرج منه كاتبًا روائيًا عظيمًا، أدرك أن الأدب يمكن أن يكون ساحة نضال لا تقل شرفًا عن ميادين القتال.

 

وان حب الوطن اعمق وابقي وهو العطاء وهو الرسالة التي دل حبيبته نوال عليها بأن حب الوطن يعني حبه لها حتي وان لم يتوج هذا الحب بالزواج وان ما فعله من تقديم نفسه لوطنه هو الحب العميق لها كي تعيش هي وابنائها حره في وطنها كما أوصاها بذلك مبررا ان حرية الوطن اغلي من الحياة .

فكان حبه الكبير الذي احبه لنوال بطلة القصة كان الحب الحقيقي للدفاع عنها وعن كل من يعيش علي الارض الطيبة مصر حب يخلد لانه مليء بالفداء والنبل والكرامه .

 

ومن رحم تلك التجربة الإنسانية والسياسية، جاءت روايته الخالدة «في بيتنا رجل» — التي تحولت إلى واحد من أعظم أفلام السينما المصرية.

والمدهش أن أحداث هذه القصة لم تكن من نسج الخيال، بل واقعية تمامًا؛ فإحسان نفسه عاشها حين فتح بيته للمناضل حسين توفيق — أحد الوطنيين الذين شاركوا في اغتيال أمين عثمان — وأخفاه عن أعين البوليس السياسي في زمن كان فيه الإيواء جريمة عقوبتها السجن وربما الإعدام.

كانت تلك الواقعة رمزًا للشجاعة والوطنية الفريدة، وموقفًا خالدًا من المساندة والوفاء لمن استجار به في لحظة خطر.

 

ومن هذه التجربة الحقيقية، صاغ إحسان روايته التي خلدت معنى الواجب الوطني والبطولة والوفاء الإنساني، لتصبح قصة «في بيتنا رجل» شهادة أدبية على أن الوطن لا يُحمى بالشعارات، بل بالفعل والموقف، وأن الكرامة هي الاسم الآخر لمصر.

روزاليوسف.. المعجزة المصرية

 

معجزة فاطمة اليوسف لم تكن فقط في قدرتها على مواجهة المؤامرات أو بيع آخر ما تملك لإصدار عدد جديد من المجلة،

ولا في صمودها أمام هجمات حزب الوفد أو رجال السياسة،

بل في كونها امرأة سبقت عصرها، وتحدّت كل القيود لتصنع مجدًا لا يمحوه الزمن.

 

كانت رمزًا لكل امرأة ورجل آمن بأن النجاح لا يُورث، بل يُصنع بالإرادة.

لم تكن روزاليوسف مجرد اسم، بل منهجًا في الإصرار والعزيمة، درسًا في الكرامة والذكاء، وأيقونةً للتحدي في وجه المستحيل.

دروس خالدة من امرأة عظيمة

 

يجب أن تُدرّس تجربة روزاليوسف لسيدات العالم ورجاله على حدّ سواء،

فمصر — التي هي أم الدنيا — أنجبت أم النجاح، وأم التحدي، وأم العطاء.

 

من روحها خرج إحسان عبد القدوس، وأمال طليمات ابنة الفنان ذكي طليمات،

ومن نورها استلهمت أجيال من المبدعين طريقهم.

 

ولعل أهم ما علمتنا إياه روزاليوسف هو أن:

• القوة الحقيقية هي قوة العزيمة.

• القوة أن تحوّلي الإقصاء إلى إصرار، والهجوم إلى حافز.

• القوة ليست في الصراخ، بل في أن يُسمع صوتك وأنت صامتة.

• القوة أن تخلقي طريقًا عندما يُغلق الآخرون الأبواب.

• القوة أن تؤمني بفكرتكِ حتى لو كنتِ وحدكِ.

• والقوة الحقيقية أن تتركي أثرًا لا يُمحى، لا لأنكِ حاربتِ العالم، بل لأنكِ آمنتِ بنفسكِ وبقضيتكِ.

 

روزاليوسف… مئة عام من المجد والرسالة.

امرأة صنعت من الحلم حقيقة، ومن الألم مجدًا، ومن القلم ثورة لا تنطفئ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى