د. سارة هاشم تكتب:  فنّ الانسحاب من الأماكن الخاطئة

 

نأتي الحياة و لا أحد منا يعلم كيف تكون التجربة قبل أن يولد !

نخوض البدايات باندفاع ، نرتبك بمنتصف الطريق و ننصدم بالنهايات.

ثمة شيء ما يجعلنا نتمسك بالأماكن التي لم تعد لنا، ونبقى في العلاقات التي أنهكتنا، ونؤجل الرحيل عن البيئات التي تُطفئ أرواحنا، فقط لأننا نخاف من المجهول فنقاتل للتمسك بحبل يقطع أيدينا و كأننا نصنع الأمان من وهم الواقع مهما كان مريرا و تتحكم فينا رهبة المجهول حتى و لو كان يحتمل شعاع من نور .

قرار الانسحاب ليس ضعفًا كما يحاول البعض سجنك، بل قوة هادئة لا يفهمها إلا من اختبر وجع البقاء في المكان الخطأ.

إنه إعلان صامت بانتفاضة كرامتك على الاستقرار الوهمي، وأن سلامك النفسي أثمن من أي تبرير زائف للبقاء.
الانسحاب بالوقت المناسب هو أن تغادر دون ضجيج، دون انتقام، دون شرح و دون تأثر بلوم أو باحتمالات تغيير كل دورها هو سلب العمر… بل بابتسامة ووعي وهدوء ،وداع عن قناعة و قناعة بعد استنفاذ كل محاولات البقاء.

الأماكن الخاطئة ليست دائمًا أماكن جغرافية
حين نقول “الأماكن الخاطئة”، لا نعني فقط مكانًا ماديًا.
بل قد تكون علاقة، عملًا، صداقة، فكرة، عادة، أو حتى نسخة من نفسك لم تعد تناسبك.
الأماكن الخاطئة هي كل ما يُطفئك بدل أن يُنيرك،
كل ما يُرهقك بدل أن يمنحك السلام،
كل ما يعجزك بدل أن يُنمّيك.
قد تبقى فيها لأنك تعودت، لأنك تخاف المجهول، أو لأنك تظن أن الانسحاب يعني الهزيمة.
لكن الحقيقة؟
البقاء في المكان الخطأ هو أشد أنواع الهزائم خفاءً هو أشد أنواع الموت البطيء ، أسوأ من سريان السم بالعروق

لماذا نخاف من الانسحاب؟
نخاف لأننا نربط الرحيل بالخذلان، و بأنه فشل معلن و أنه تصريح بخطأ ارتكبته في حق نفسك و بدلا من التوقف عنه تعاند و تكابر بالاستمرار فيه ظنا أن المجهود سيجدي نفعا يوما ما!!

ولأننا نظن أن النهايات مؤلمة دائمًا،
ولأننا نعتقد أن البقاء يعني الوفاء، و يعني اجر الصبر و أن التضحية دائما بطولة حتى لو كان الثمن أنفسنا!!
لكن ربك قال عن نفسه أنه لا يحمل نفسا إلا وسعها فلم انت تتجاوز في حق نفسك و ترهقها بم لا تطيق؟؟!!

لكن لو تأملت قليلًا، ستكتشف أن أكثر الألم لا يأتي من الفقد، بل من التمسك بما يجب أن يُترك.

أن تبقى في علاقةٍ تعرف أنها تستنزفك، فقط لأنك لا تملك شجاعة الانسحاب،

أن تبقى في بيئةٍ تخنقك لأنك تخشى كلام الناس،

أن تُجبر نفسك على البقاء حيث لم تعد تُحترم، لأنك تظن أن الصبر واجب مهما كان الضرر!!.

البطولة الحقيقية ليست في البقاء،
بل في معرفة متى يكون الرحيل إنقاذاً لا هروبًا.

الانسحاب الواعي ليس هروبًا… بل شجاعة
الهروب يأتي من الخوف،
أما الانسحاب فيأتي من مرحلة ادراك.
الهروب يعني أنك لا تواجه،
أما الانسحاب فيعني أنك واجهت، وفهمت، ثم اخترت السلام على الصراع.
إنه أن تقول لنفسك:
“لقد بذلت ما بوسعي، ولم أعد أملك ما أقدّمه.”
أن تغادر لأنك أدركت أن البقاء لم يعد يضيف شيئًا، بل يسلبك أكثر مما يعطيك.

أعلم ياصديقي أن أصعب انسحاب… هو من الأشياء التي تمنّيتها
أحيانًا، يكون المكان الخاطئ هو نفس المكان الذي تمنّيتَه يومًا، وراهنت عليه جهراً

الوظيفة التي حلمت بها، العلاقة التي ظننت أنها ملجأك ، المدينة التي حسبتها مكان انطلاقك.
ثم تكتشف أن الأحلام أيضًا قد تُخطئ العنوان،
وأن النوايا الطيبة لا تصنع بيئة صحية دائمًا.
وهنا يأتي الاختبار الحقيقي:
هل تملك شجاعة أن تغادر ما بنيت ؟
هل تملك شجاعة الانهزام ؟
هل تستطيع أن ترجح ميزانك لصالحك و لو مرة ؟
أن تقول “لا أريد لكل ما كنت تريد!!”

أن تختار أن تُكمل الطريق وحدك لأنك عرفت أن البقاء يعني سلب الروح و اعتلال الجسد
ذلك هو جوهر النضج العاطفي: أن تعرف أن الحب لا يُبرر الأذى، وأن الاحتمالات و الآمال لا تُبرر السجن،
وأن التعلق لا يعني نهاية العالم .

الانسحاب … لا يحتاج تبريرًا
حين تنسحب من مكانٍ لم يعد يناسبك،
لن يفهم الجميع قرارك.
سيتهمك البعض بالغرور، وسيراود البعض الشك في نواياك.
لكن تذكّر: الوعي لا يحتاج تصفيقًا.
الانسحاب لا يُشرح، بل يُمارس.
لأن ما تراه الناس “هدوءًا غامضًا”، هو في الحقيقة سلام بعد معركة طويلة مع نفسك.
قد يراك البعض صامتًا، لكنك في داخلك تبتسم لأنك اخترت أخيرًا نفسك، لا صورتك أمام الآخرين.

الانسحاب ليس دائمًا نهاية… بل بداية
عندما تنسحب من المكان الخطأ، فأنت لا تخسر… بل تُفسح مساحة لما يستحقك.
الفراغ الذي يتركه الانسحاب ليس فراغًا مؤلمًا، بل مساحة جديدة للنور، للصدق، للراحة.
الانسحاب من علاقة مؤذية قد يكون بداية علاقة مع ذاتك.
الانسحاب من عملٍ خانق قد يكون بداية مشروعك الخاص.
الانسحاب من صداقة مزيّفة قد يكون بداية صدقٍ مع نفسك.
كل نهاية تفتح بابًا، حتى لو لم تراه الآن.
فقط عليك أن تثق أن ما تركته خلفك لم يكن طريقك،
وأن ما ينتظرك أمامك يستحق هذا الانسحاب.

كيف تتقن فنّ الانسحاب ؟
اقبل الحقيقة كما هي
واجه نفسك: هل ما زال هذا المكان يضيف لك؟ أم أصبح يستهلكك؟
الصدق مع الذات هو الخطوة الأولى نحو الانسحاب السليم.
الانسحاب هو صمتٌ يعبّر عن ألف كلمة.
لا تلتفت للخلف كثيرًا
أعلم أن الحنين جزء من الرحيل، لكنه لا يجب أن يجذبك للخلف
و اغفر لنفسك لأنك تأخرت قليلًا في المغادرة و ارفق بها
مَن يتقن فنّ الانسحاب… لا يعود ابدا كما كان
بعد كل انسحاب، تولد نسخة أنضج منك.
نسخة تعرف حدودها، وتُدرك قيمتها، ولا تبيع طمأنينتها لأي أحد
الانسحاب لا يُبقيك كما أنت،
بل يجعلك أهدأ، أصدق، وأقرب إلى حقيقتك.
في المرات القادمة، ستعرف مبكرًا أين تنتمي وأين لا.
لن تحتاج أن تُعذّب نفسك بالتجارب نفسها.
لأنك تعلمت أن السلام ليس في المعافرة للبقاء في نفس المكان، بل في اختيار المكان الصحيح.

الانسحاب فنّ لا يتقنه إلا الأقوياء
من السهل أن تتشبث…
أن تصرخ، أن تطالب، أن تُبرر، أن تقاتل لأجل شيء يحتضر.
لكن الأصعب أن تختار الصمت والمغادرة برأس مرفوعة.
القوة الحقيقية لا تظهر في معارك البقاء
بل في اللحظة التي تقول فيها: “لقد انتهى، وأنا راضي بالنهاية.”
العمر قصير، والروح حساسة، والطاقة محدودة.
فلا تهدرها في أماكن لا تراك، أو في علاقات تُطفئك، أو في أعمالٍ تُنقصك.
الوجود في المكان الخطأ لا يجعلك وفيًّا… بل منهكًا ميتا على قيد الحياة.
لا أحد سيُكافئك على تدمير نفسك من أجل الآخرين.
غادر حين تشعر أن وجودك لم يعد يُثمر،
فالأشجار لا تُصرّ على النمو في تربةٍ ميتة.
الانسحاب من النفس القديمة
ليست كل الأماكن أشخاصًا أو مواقف،
أحيانًا المكان الخطأ هو أنت القديم:
نسختك التي ترضي الجميع على حساب نفسك، التي تخاف الرفض، التي تضحك رغم التعب، التي تؤجل أحلامها.
تعلم أن تنسحب من تلك النسخة أيضًا.
أن تقول: “لقد انتهيت من محاولة أن أكون مثاليا .”
أن تبدأ من جديد بصورتك الحقيقية، لا بما يُريده العالم منك.
الانسحاب من النفس الزائفة هو أعظم أنواع الحرية.
إنه بداية الطريق نحو ذاتك النقية.
و اعلم أنك حين تعرف متى تغادر، ستعرف أيضًا كيف تبدأ من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى