درب الحج… قصص القوافل والثقافات العابرة للصحراء (٢)

بقلم/ د.  سهام عزالدين جبريل

لم تكن قوافل الحج من مصر وبلاد المغرب ومرورها عبر سيناء حتى وصولها بلاد الحرمين الشريفين ( مكة والمدينة)، يتضمن: الطريق فقط وحجات التنقل بل نقلت ثقافات وعادات وتقاليد بين أفواج الحجيج منها الملابس و، الأطعمة المكتسبة (المقتول والكسكسي)، المشغولات اليدوية والتطريز، ثم أثرها على ثقافات
طريق الروح والذاكرة
منذ قرون طويلة، كان درب الحج المصري الرابط الحيوي بين بلاد المغرب ومصر والحجاز. ينطلق الحجاج من الإسكندرية والقاهرة حيث يتجمعون في “بركة الحاج”، ثم يعبرون صحراء سيناء في مسيرة شاقة تمر عبر عجرود، نخل، الثمد، قلعة العقبة، وصولًا إلى الحجاز.
لم يكن هذا الطريق مجرد مسلك جغرافي للعبادة، بل كان جسرًا حضاريًا وإنسانيًا حمل معه قصصًا وحكايات وتقاليد وعادات عبرت الحدود والزمان.
١- محطات التلاقى

نخل والثمد… محطات اللقاء والتبادل
في نخل بوسط سيناء، كانت القوافل تستريح أيّامًا. الأسواق تنعقد، والقبائل البدوية توفر الماء والخبز والمؤن، والنساء ينشطن في إعداد الطعام.
وهناك، بدأت حكاية المقتول:
نساء بدويات يفتلن العجين بأيديهن ليصنعن “المفتول” – وهو النسخة السينائية من “الكسكسي” المغربي. كان الطبق يُطهى في قدور النحاس الكبيرة باللحم والحمص والبصل، فيجلس الحجاج المتعبون يتذوقون طعامًا يعكس تلاقي المذاقات بين المغرب ومصر وسيناء. وتعلم المغاربية والأفارقة خبز الصاج والقرصة والفته والمنسف وشوى البطيخ الصغير (العجر) والبندورة والبصل وإعداد اكلة اللصيمة وطبخ لحم الغنم على الحطب وحفظ اللحوم وتسبيكها وعصر وتخليل الزيتون وتجفيف الثمار
وإعداد وجبات من الحليب واللبن الخضيض وحفظه فى اخوانى فخارية وانوع متعددة ومتنوعة من الوجبات السريعة
بهذا، لم يعد الطعام مجرد مؤونة، بل صار لغة مشتركة: المغاربة قدّموا الكسكسى، البدو أضافوا المفتول، وخبز الصاج والقرصة والرفاق والفتة والمنسف والثريد وشى لحوم الأغنام المصريون حملوا معهم الخبز والفول والعدس، فاختلطت الأذواق في مائدة واحدة

٢-فن التطريز والخياطة… إبرة تعبر الحدود:
كما انتقلت الأطعمة، انتقلت الحرف اليدوية عبر هذا الدرب.
نساء المغرب حملن معهن خبرة التطريز الغرزي والهندسي،
بينما أضافت البدويات زخارف مستوحاة من الصحراء. ودروبها والوانها الصحراوية ونماذج الزراعات والطيور التى تجود بها
المنطقة
المصريون نقلوا خبرة الخيامية والزخارف القطنية.

الأفارقة جلبوا الخرز الملون والأحزمة الجلدية.

ففي محطات الاستراحة، لم يكن التبادل تجاريًا فقط، بل حرفيًا وثقافيًا؛ فكانت النساء يتبادلن الخيوط والزخارف، والصناع يتعلمون أنماطًا جديدة من القص والخياطة، وانواع الأقمشة والملابس ونوعية الرداء واستعمالات لملابس المولود وملابس الاطفال والنساء والرجال وكل تفاصيلها واستعمالاتها وفنون الترقيع (الباتش وورك ) واستخدم قصاصات الأقمشة فى صناعة المصليات والمغلرش والاغطية لتنشأ هوية بصرية مشتركة في الثياب والمشغولات اليدوية والاكسسوارات المكملة للازياء المصنوعة من الخرز خامات الفضة والذهب والنيكل وطرق تشكيلها

٣-وصول القوافل إلى مكة والمدينة:
حين تصل القوافل إلى الحرمين، كانت مكة والمدينة تتحولان إلى ملتقى عالمي.
في الأسواق مثل “المعلاة” و”منى”، كان أهل الحجاز يتعرفون على أطعمة جديدة كالمقتول والكسكسي، ويكتسبون خبرات في التطريز والخياطة من النساء المغربيات والمصريات.

ظهرت أنماط زخرفية جديدة في العباءات.

انتقلت الأكلات لتصبح جزءًا من المائدة المكية والمدنية.

وتنوعت المشغولات اليدوية لتشمل تقنيات مغربية ومصرية وأفريقية.
تعددت المسميات والاصناف وتطورت وأخذ الزوار والمقيمين خبراتها التى تنوعت واعيد صياغتها بنماذج محلية تغيرت المسميات والاصناف والأشكال والنماذج ولكن بقيت الجذور التى أكدت الفروع بعبق رحيقها وخبراته المتراكمة
وهكذا أصبح أهل مكة والمدينة ورثة خبرات شعوب متعددة تجمعت على على ألاراضى المقدسة ارست وحدة وجدانية بينها وبين بلاد الحرمين واهلها الطيبين أهل الكرم والمضياف ، حتى صارت حياتهم اليومية انعكاسًا لهذا التفاعل الحضاري. الانسانى الذى وحد الشعوب عبر طريق ودرب الحج

درب الحج… أكثر من عبادة:

الرحلة لم تكن مجرد عبور إلى بيت الله الحرام، بل كانت مدرسة كبرى للتبادل الثقافي.

من الطعام إلى التطريز.

من الأسواق إلى الحكايات الشعبية.

من عادات الضيافة إلى مهارات الحرف.

ترك هذا الطريق بصماته على سيناء والمغرب ومكة والمدينة، ليصبح شاهدًا على أن الحج رحلة روح وجسد وثقافة معًا ووحدة وجدانية الفت بين الشعوب ورفعت راية الوحدانية والتقت تحت مظلة لا اله الا الله .محمد رسول الله .

📌 خاتمة
والليوم، حين ننظر إلى أطباق مثل “المفتول”، أو إلى أثواب مطرزة بخيوط فضية في مكة والمدينة، ندرك أن وراءها قصة طويلة من القوافل العابرة للصحراء. قصص جمعت شعوبًا من أقصى المغرب إلى قلب بلاد الحرمين ، وربطت بينهم بخيوط من ذهب وذاكرة عطرة لا تنسى. مازلت تتوارثها الأجيال .

خالص تحياتى
🌹🌹🌹
د/ سهام عزالدين جبريل
دكتوراه في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية
-زمالة الأكاديمية العسكرية للدراسات الاستراتيجية العليا – عضو البرلمان المصري سابقً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى