فرح الهاشم تكتب: سر عشقي للقاهرة

تكلّمتُ مع صديق العمر الفرنسي، نيكولا، الذي عرفتُه في باريس وبقي بيننا الخيط الرفيع للألفة رغم المسافات. سألني، بنبرة استغرابٍ عاطل عن الدهشة: “كيف تستطيعين أن تمضي عطلتك في مصر، ذلك البلد الخراب؟”
ابتسمتُ، وقلت له: فسّر لي أكثر.
أجاب بلا تردّد: بلدٌ مزدحم، حرّ خانق أو برد قارس، لا مهنية، فوضى، ضجيج، وتفاصيل مملة من كونكريت رمادي.
ضحكتُ، وقلت له: يا نيكولا، هذه القائمة التي عدّدتها هي بالذات سبب عشقي للقاهرة. لأنك ببساطة لم تتعلّم كيف تستمتع بها. أنت لا ترى منها سوى فندق معزول، جولة خاطفة في خان الخليلي، زيارة باهتة إلى المتحف والأهرامات، ثم وداع سريع.
أما القاهرة التي أعرفها أنا، فهي شيء آخر تمامًا:
هي أن تركب توك توك والسائق يغنّي لك كأنه على مسرح صغير.
أن تجلس في “جروبي” وتأكل سلطة يختلط فيها الكرز بالفراولة.
أن تشتري كريمًا من صيدلية عمرها مئة وخمسون سنة وتخرج كأنك حظيت بقطعة من التاريخ.
أن تتمشّى في شارع فؤاد وتفتّش عن أسطوانات قديمة في سوق عتيق تحت سينما ديانا.
أن تلتهم بطاطس مقرمشة عند “نعمة” في الثانية صباحًا.
أن تغنّي وتدندن مع نفسك، أو مع صديقك، فوق كوبري قصر النيل عند الثالثة فجرًا.
أن تشرب بيرة باردة في “مقهى الحرية” وتضحك من قلبك كأن العالم لم يعرف حربًا قط.
أن تشاهد فيلمًا قديمًا في سينما وسط البلد، وتخرج كأنك عشت زمنًا آخر.
أن تركب أوبر أو تاكسي وتتحاور مع السائق في السياسة والدين والموسيقى والحياة كلّها دفعةً واحدة.
هذه هي القاهرة التي أعشقها، القاهرة التي تُنقذني.
فأنا صابرة على هذا الكون، على حربٍ وإبادةٍ وقهرٍ وبكاء ودموع، فقط لأنني أعرف أنني أستطيع أن أهرب أحيانًا إلى حضن القاهرة، لأترك أهلها يغطّونني بطيبتهم
وعلى فكرة يا نيكولا، حتى الحرامي في مصر دمه خفيف.