في ذكرى وفاة الكاتب الكبير محمود عوض : أرجوك لا تفهمنى بسرعة !!

خيري حسن

عندما دقت ساعة جامعة القاهرة، القريبة من منزل الكاتب الصحفي محمود عوض – ( رحل في 28 أغسطس/ 2009 وأكتشفت وفاته عندما ذهبت إليه في ذلك المساء بعد الإفطار – حيث كنا في شهر رمضان – ولهذه الليلة الغريبة والعجيبة وشخصياتها وما جرى فيها قصة أخرى- حيث كان يسكن في 6أ شارع ابن مالك – بجوار كوبري الجامعة – حيث أقف بجوار بيته الآن.
•••
الساعة بعد الرابعة بقليل، في عصر يوم خريفي منعش، حيث أقف بجوار سيارة تاكسي في انتظاره – بعد الاستئذان من قوة تأمين مقر سفارة (إسر – ئيل) التي كانت تقف على مدخل الشارع – وبداخل السيارة سائقها الذي مازال يتمتم بكلمات أسمعها بوضوح :”إيه اليوم الغريب العجيب ده؟.. يعني يارب آجي برجليه لوجع الدماغ كدة.. بوليس وضباط، وعساكر، ودنيا مقلوبة” ثم قال وهو ينفث دخان سيجارته: “ربك يسترها بقى.. ومتسحبش مِني رخصة السيارة”!
•••
بعد لحظات سألني: “هو البيه صحبك ده نازل إمته”؟!
التفتُ له وأنا أغلق الموبايل بعد محادثة سريعة على الهاتف الأرضي مع الأستاذ محمود عوض وقلت: “خلاص..نازل حالًا”!
•••
بعد دقائق أزاح فرد الشرطة المصدات والحواجز الأمنية، وأفسح الطريق لمحمود عوض ليمر منه، بعدما بادله ابتسامة حانية، وخفيفة، وسريعة، وهو يقول للجميع:
“مساء الخير…يا رجاله”! ثم قال:”
“هل اتأخرنا يا خيري كده؟
— رديت: “لا.. يا أستاذ.. شارع عبد العزيز يعمل حتى ساعة متأخرة من الليل..بعد لحظات ركب في المقعد الأمامي بجوار السائق الذي فاض غضبه، وفاق كل حد، بسبب الانتظار في هذا المكان، وانقلب خوفه من الوقوف في هذا الشارع (الملبش – حسب وصفه) إلى حالة من الفزع الشديد كانت واضحة على ملامحه!
•••
لاحظ محمود عوض ارتباك وخوف السائق فقال له: “ما لك يا أسطى “؟
رد بعنف: “الأخ – يقصدني أنا – اللي راكب ورا ده ضحك علىّ.. عارف لو كان قال لي إنه جاي في الشارع ده؟! مكنتش وافقت وجيت معاه أبدًا”!
-“لماذا”؟ (سأله محمود عوض وهو يضحك)
-“يعني انت مش شايف يا بيه كمية أفراد وضباط البوليس اللي في الشارع”؟ ثم سأله وهو مشغول بتشغيل كاسيت السيارة:
“همه بيأمنوا مين هنا”؟!
رد محمود عوض: “بيأمنوا إسر- ئيل”
— رد السائق: يا نهار أسود…إسر- ئيل؟!
ثم تدارك السائق رده العفوي قائلًا: “أما نشغل الست أم كلثوم أحسن “ثم عاد وقال وهو يدندن مع الموسيقى:” أُمال بقى كنا بنحارب كل الحروب اللي فاتت دي ليه “؟! ثم ألقى ببقايا سيجارته التي أوشكت على النفاذ في الشارع.
بعد لحظات من الصمت قال: “الأخ – يقصدني أنا – قال لي إن حضرتك كاتب صحفي كبير”؟
رد محمود عوض: “الأخ – اللي تقصده ده – يبالغ بعض الشيء..”متصدقش كلامه”..( قالها وهو يضحك)!
— رد السائق: “وقال لي كمان إن الست أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وعادل إمام والناس الحلوة دي كلها، كانوا حبايبك وأصحابك”؟
رد: “آه…هو في دي معاه حق”!
— قال السائق: “يا بيه (قالها وهو ينظر لي في مرأة السيارة التي أمامه) وقال لي كمان إنك ياما سافرت، ووقفت، واتكلمت، وكتبت، وهاجمت إسرا – ئيل؟!
( من أعمال الكاتب الصحفي محمود عوض: كتاب “أفكار ضد الرصاص”، كتاب “ممنوع من التداول”، كتاب “سري جدا”، كتاب “متمردون لوجه الله”، كتاب “وعليكم السلام”، كتاب “أم كلثوم التي لا يعرفها أحد)
— رد محمود عوض بعد فترة صمت: “(الأخ) اللي راكب معنا في الكرسي الخلفي في دي كمان معاه حق”!
— السائق بجدية ظاهرة في نبرات صوته: “طيب طالما أنت كنت تكتب ضد إسر- ئيل. سكنت ليه في العمارة اللي جنب سفارتهم”؟
— رد : “الحقيقة همه اللي جم وسكنوا جنبي وليس العكس..!
– قال السائق بجدية شديدة: “وعلى كده انت لسه بتكتب ضدهم برضه”؟!
— قال: “طبعًا.. طبعًا”!
— قال السائق وهو منطلقًا بسيارته مبتهجًا وسعيدًا:
“(برافو)عليك يا بيه..والله”
•••
كنا قد وصلنا إلى ناصية شارع عبد العزيز بوسط القاهرة من ناحية كوبري الأزهر بالقرب من مكتب البريد والمطافي عندما توقف بنا، وبدأت استعد للنزول، فيما بدأ الأستاذ محمود يُخرج من جيبه حافظة نقوده ليعطي الحساب للسائق!
-“عيب يا بيه…والله ما هاخد منك ولا جنيه… ده كلام برضه”!
ولمدة دقائق حاول الأستاذ محمود عوض- وحاولت أنا – مع السائق بكل الوسائل والطرق ليأخذ أجرة سيارته، لكنه – وبصورة شديدة، وغريبة، وعنيفة – رفض واستمر في رفضه إلى أن ودعنا بابتسامة عريضة، وهو يقول:
“يعني يا بيه فعلًا كنت بتقعد كده (الوش في الوش) مع الست أم كلثوم وعبد الوهاب وعادل إمام”؟! رد محمود عوض وهو يبتسم: “اه..يا أسطى!”
بعد لحظات انطلق السائق بسيارته وهو يودعنا، قبل وصول ضابط مرور الميدان ليحرر له محضرًا لأنه (يقف في الممنوع)!
•••
دخل محمود عوض في حالة صمت واضحة، بعدما انطلق السائق من أمامنا، ثم عبرنا الطريق في اتجاه شارع عبد العزيز، وهو مازال في حالة الصمت – والدهشة – التي صاحبته – نتيجة لحديثه العابر مع السائق – طيلة الوقت الذي قضيناه في الشارع لشراء(قعدة) لغسالة بيته! ولهذه (القعدة/ والغسالة) قصة أخرى!! ( الحقيقة لا أذكر الآن قاعدة الغسالة أم قاعدة الثلاجة).
•••
ونحن نغادر سألت محمود عوض: تفتكر يا أستاذ.. لماذا رفض سائق التاكسي أن يتقاضى الأجرة منك؟ هل لأنه عرف أنك كنت صديق للست أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب؟ أم لأنك كتبت – وتكتب – ضد ممارسات، وانتهاكات، واعتداءات، إسر – ئيل؟ رد قائلًا: “احسبها زي ما انت عايز”! قالها بهدوء، وسعادة، وثقة، ورضا، ونحن فى طريقنا للخروج من الشارع إلى ميدان العتبة بدون أن نشترى القاعدة فقلت له:” متشغلش بالك يا أستاذ..أنا هشتريها واجبها لك في يوم تاني ” رد:” اتفقنا”
•••
وبعد أسبوع ذهبت بمفردى واشتريت القاعدة واستقليت المترو من محطة العتبة..وما أن دخلت وقبل المرور من البوابات جاء لى فرد الأمن و” قبض ” على القاعدة وعلىّ لمخالفة القوانين وفي مكتبه جلست ما لا يقل عن ساعة في مفاوضات شاقة… انتهت إلى ما انتهت إليه (وربما أكتبه في مقال آخر بعدما علم به وتابعه معى الأستاذ محمود عوض في حينه)
……
……
وفي هذه الساعات ونحن نقترب من ذكري رحيله لا أنسى موقف سائق التاكسى وقتها. ولا أجد ما أقوله سوى ما كتبه الكاتب اللبنانى الشهير سمير عطالله بعد وفاته قائلاً:
” بدري يا عم محمود”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى