حين يتحوّل الإبداع إلى تهمة

بقلم: د. محمد سلام
في خضم سباق التحول الرقمي، وتحت مظلة دعوات الدولة المتكررة لدعم الإبداع وريادة الأعمال، فوجئنا قبل أيام قليلة بحالة أثارت الجدل: شاب في مقتبل العمر، بذل جهدًا واضحًا لإنتاج فيديو ترويجي للمتحف المصري الكبير، باستخدام أدوات رقمية حديثة وأساليب منتشرة عالميًا، فإذا بردّ الفعل الرسمي يصف عمله بأنه “خالٍ من الإبداع والفكر”، بل ويهدده باتخاذ إجراءات قانونية بدعوى “سرقة ملكية فكرية”.
رد فعل مبالغ فيه، لا يتناسب لا مع الفعل، ولا مع اللحظة التاريخية التي نعيشها، ولا مع توجهات الدولة التي تحاول تمكين الشباب وفتح المجال أمامهم ليشاركوا في الترويج لمقدّرات هذا الوطن.
الإبداع لا يولد كاملاً
من الطبيعي أن يخطئ الشاب في بعض التفاصيل، سواء باستخدام صور شخصيات عامة دون إذن، أو بعبارات لم تكن موفّقة، لكن هذا لا يسوّغ تصعيد الموقف إلى بلاغات وتهديدات. الإبداع الحقيقي لا يولد كاملاً، بل يتطور بالتوجيه والاحتواء، وليس بالتخويف والتقليل.
ملكية فكرية أم إساءة استخدام؟
ما قيل عن “سرقة ملكية فكرية” يستحق وقفة. استخدام صورة ميسي أو محمد صلاح دون إذن هو بالفعل استخدام غير مشروع، لكن أصحاب هذه الحقوق هم فقط من يملكون حق إقامة دعوى قانونية، وليس جهة ثالثة لا تملك هذه الحقوق.
أما الحديث عن صور المباني العامة، كالمتحف، فلا ينطبق عليه توصيف “ملكية فكرية”، لأن هذه المعالم مملوكة للدولة والشعب، ويمكن تصويرها واستخدامها طالما لم يحدث تشويه متعمد أو إساءة صريحة.
القضية في جوهرها لا تتعلق بالملكية الفكرية، بقدر ما تتعلق بـ”إدارة الصورة الذهنية” للبلد. وهنا يكون السؤال الأهم: هل تصدير صورة القمع والخوف والتعقيد هو ما نريده فعلاً في الترويج لمصر؟
البديل كان بسيطًا.. ومحترمًا
كان الأجدى أن يتم دعوة الشاب لمقابلة المسؤولين، ومناقشة ما فعله، وتوضيح الخطأ، وفتح الباب أمامه ليشارك في إنتاج محتوى أكثر احترافية — تحت إشراف الوزارة، أو بالتعاون مع جهة إعلامية وطنية. بذلك نربح شابًا موهوبًا، ونقدم نموذجًا راقيًا لكيفية احتواء الطاقات بدل إحباطها.
ما نراه اليوم من فجوة كبيرة بين المؤسسات الرسمية ومواقع التواصل الاجتماعي لا يُعالج بالبلاغات، بل بتحديث أدوات الدولة، وخلق شراكات ذكية مع الجيل الجديد الذي يفكر، ويعبّر، وينتج بطريقة مختلفة.
الخلاصة: لا تُخيفوا المبدعين
الشاب أخطأ، نعم. لكن الطريقة التي تم التعامل بها مع خطئه تحمل رسالة سلبية لكل شاب يفكر خارج الصندوق. الرسالة التي وصلت كانت: “إياك أن تحاول، فالمحاولة قد تقودك إلى التحقيق أو المحاكمة”.
هل هذا هو النموذج الذي نريد تصديره للعالم عن طريقة تعاملنا مع الإبداع؟ هل نريد أن يخاف المبدعون منا بدل أن يعملوا معنا؟
نحتاج إلى مراجعة هذه العقلية، لأن الاستثمار الحقيقي ليس فقط في الآثار أو المعارض، بل في العقول التي تستطيع أن تحوّل هذه الكنوز إلى رسائل تصل للعالم، بلغة العصر، وبروح الشباب