الاسكا قمة المصالح

بقلم: ناصر السلاموني
بعد استنزاف طاقة العالم بأسره بحرب مفتعلة بين روسيا وأوكرانيا، تسببت في غلاء الأسعار واستنزاف الأموال في السلاح والتدمير، واستُغلت كأداة لفرض واقع جديد في غزة عبر المخطط الإسرائيلي المستمر، ومع التوسع الأمريكي في الدول العربية بزيادة القواعد العسكرية، وتقسيم النفوذ على مستوى العالم بين القوتين صاحبتَي الفيتو، وتحوّل الأمم المتحدة إلى مجرد منظمة تشرعن ما تحتاجه هذه القوى فقط. وزاد الأمر وضوحًا مع إرغام رئيس أوكرانيا على توقيع عقد توريد المعادن لأمريكا كتعويض عن مساعداتها، وصفقات الأسلحة التي تدفقت عليها بلا حساب. في ظل هذه الأجواء الملبدة كان الأمل معقودًا على أن تكون قمة ألاسكا بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب بداية لإنهاء معاناة العالم، لكن النتيجة جاءت محبطة وأكدت مجددًا أن المصالح الكبرى تطغى على كل شيء.
انتهت القمة وسط اهتمام عالمي وترقب، غير أن ما خرجت به لم يكن سوى إعادة إنتاج لحقيقة معروفة: مصالح القوى الكبرى فوق أي اعتبار، وأي حديث عن حقوق الشعوب أو تحقيق العدالة ليس إلا غطاءً دبلوماسيًا لإخفاء صفقات النفوذ وتقاسم مناطق السيطرة. التوقعات كانت تشير إلى إمكان التوصل إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا، أو على الأقل دفع جديد في ملف فلسطين، لكن الواضح أن هذه القضايا لم تكن إلا أوراقًا ثانوية ضمن حسابات أوسع تستهدف تثبيت مكانة موسكو وواشنطن في إعادة تشكيل النظام الدولي.
بوتين تحدث بنبرة متفائلة عن أجواء القمة، مؤكدًا أن انعقادها في ألاسكا يحمل رمزية تاريخية وجغرافية، لكنه لم يُخفِ أن العلاقات بين البلدين وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة. وأقر بأن الوضع في أوكرانيا مأساوي بالنسبة لروسيا، غير أنه شدد على أن أي تسوية يجب أن تكون جذرية وطويلة الأمد تراعي أمن بلاده ومصالحها. في المقابل، أظهر اهتمامًا كبيرًا بتعزيز التعاون التجاري مع الولايات المتحدة، مشيرًا إلى مجالات العمل المشترك في الطاقة والتكنولوجيا والفضاء والقطب الشمالي. بكلمات أخرى، أوكرانيا لم تكن سوى ملف جانبي يُستحضر في سياق المصالح الأوسع.
أما ترامب، فقد وصف القمة بأنها “مثمرة للغاية”، وأعلن عن “تقدم هائل” في المباحثات حول الأزمة الأوكرانية، لكن دون اتفاق نهائي. تركيزه الأساسي انصب على التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي، الذي اعتبره الطريق الحقيقي لعودة العلاقات الطبيعية بين واشنطن وموسكو. وفيما يخص فلسطين، لم يتجاوز النقاش تصريحات عامة حول “دعم جهود السلام” دون أي التزامات عملية، وهو ما يوضح أن هذه القضية لم تكن حاضرة ضمن الأولويات. الرسالة كانت واضحة: ما يهم هو النفوذ والسيطرة، لا معاناة الشعوب.
وعند قراءة ما جرى في ألاسكا على ضوء التاريخ الحديث، يتضح أن الأمر ليس جديدًا. الولايات المتحدة لم تتردد في غزو العراق عام 2003 بذريعة أسلحة الدمار الشامل، لتدمر دولة بأكملها وتعيد تشكيل خريطتها بما يخدم مصالحها النفطية والجيوسياسية. وروسيا لم تتورع عن التدخل العسكري المباشر في سوريا عام 2015 لتأمين نفوذها الاستراتيجي وقواعدها في المتوسط. هكذا أثبت الطرفان عبر العقود أن الشعوب ليست ضمن أولوياتهما، وإنما السيطرة والنفوذ.
القمة لم تكن سوى تأكيد لهذه العقلية القديمة. أوكرانيا تحولت إلى ورقة مساومة، وفلسطين إلى ملف ثانوي يُستحضر لإظهار الحياد، بينما الجوهر تمحور حول الصفقات الاقتصادية والتفاهمات الأمنية وتوزيع النفوذ في القطب الشمالي ومجالات الطاقة والتكنولوجيا. أما الشعوب التي علّقت آمالها على أن ترى بارقة أمل من هذا اللقاء فلم تحصد سوى مزيد من الخيبة.
الخلاصة أن قمة ألاسكا، رغم أنها فتحت قنوات الحوار بعد سنوات من التوتر والقطيعة، كشفت بوضوح أن المصالح الشخصية للدولتين فوق أي اعتبار. العالم لم يفقد فقط الأمل في أن تشكّل القمة بداية حلول حقيقية، بل فقد كذلك ما تبقى من مصداقية لروسيا وأمريكا في التعامل مع القضايا الراهنة. فكلاهما برع في صناعة الأزمات أكثر مما التزم بحلها، والشعوب ليست سوى أرقامًا على جداول حساباتهم الكبرى للهيمنة والنفوذ. وفي النهاية، يتأكد أن واشنطن وموسكو وجهان لعملة واحدة، يبيعان الشعارات ويشتركان في استغلال الشعوب، بينما السلام بالنسبة لهما يظل مجرد كلمة جميلة تُستحضر في المؤتمرات وتُدفن في أرض الواقع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى