استدعاء الوهم التاريخى.. إسرائيل الكبرى

بقلم- د. هند جاد
خرج علينا مؤخراً بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلى) بتصريحات خطيرة.. يستدعى فيها ما فى جعبته الأيديولوجية ويكشف عن النوايا التوسعية الإسرائيلية حيث أعاد إحياء فكرة “إسرائيل الكبرى”. وهى فكرة تعبر عن حلم إسرائيل التوسعى القائم على نفى وجود الآخر، ورسم خريطة استعمارية جديدة تشمل كل من: فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، بل وتمتد إلى سيناء المصرية. مثل هذه الأفكار التوسعية ليست جديدة على توجهات العقلية السياسية الإسرائيلية، وتوقيت استدعائها.. يكشف عن رسائل سياسية محسوبة، موجهة إلى الداخل الإسرائيلى لتحفيز الأحزاب اليمينية المتطرفة، وموجهة إلى الخارج لاستشراف ردود الأفعال الدولية. وما يمكن أن يحدث اقليمياً وعالمياً.
الموقف المصرى ثابت وواضح وحاسم. سيناء ليست مجرد أرض ورمال، بل هى جزء من التاريخ الوطنى المصرى وقطرات من دماء آلاف الشهداء الذين قدموا أرواحهم لتحريرها والحفاظ عليها. وإن أى تلميح حتى لو كان ولو عابراً.. للمساس بأمنها وسيادتها.. هو تجاوز للخطوط الحمراء غير المقبولة تحت أى شكل من أشكال النقاش أو المساومة.
لم تنس القوات المسلحة المصرية دروس التاريخ.. خاصة هزيمة 67 وانتصار 73. وواصلت على مدار كل تلك السنوات.. تطوير منظوماتها الدفاعية والهجومية لضمان حماية كل شبر من أرض مصر سواء سيناء أو غيرها. والقاعدة الوطنية أن الأمن القومى المصرى لا يبدأ من حدود رفح، بل يمتد إلى كل الحدود الإقليمية التى قد تمس استقرار مصر وأمنها.
تصريحات نتنياهو الأخيرة ليست مجرد رأى سياسى، بل هى انعكاس لأيديولوجية تاريخية خطيرة، تقوم على تفسير عقيدى متشدد للتاريخ والجغرافيا لتبرير التوسع على حساب شعوب دول الاقليم. ظلت هذه الأيديولوجية، وما زالت، السبب الأساسى فى تعطيل أى مسار جاد لتحقيق السلام العادل والشامل فى المنطقة.
الصمت أمام هذه التصريحات ليس خياراً آمناً تماماً. وما حدث فى الجولان ولبنان والعراق والأراضى الفلسطينية المحتلة.. يؤكد أن كل شبر… تتركه الأطراف العربية يتم استباحته.. للتثبيت والضم. وهو ما يجعل التعامل مع تصريحات نتنياهو.. باعتبارها إعلان نوايا سياسية لا يمكن إغفالها أو التقليل من خطورتها وتأثيرها.
أكدت وزارة الخارجية المصرية فى بيانها الأخير.. على تمسك القاهرة بالثوابت الوطنية والعربية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وفى مقدمتها حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية فى تأكيد على تصريحات سابقة بأن أى طروحات أو مخططات تمس الأراضى العربية أو تسعى لتغيير هوية المنطقة.. مرفوضة جملة وتفصيلاً.
الموقف المصرى المدعوم يستند إلى شرعية القانون الدولى الإنسانى، وهو ما يجعله ليس قاصراً على مجرد أنه خطاب دبلوماسى، بل هو فى جوهره.. التزام استراتيجى يتم ترجمته سياسياً بالقدرات الميدانية على الأرض. هذا الموقف يعكس وعياً وطنياً بأن استقرار مصر مرتبط باستقرار الإقليم، وأن أى تغيير قسرى للحدود أو محاولة فرض أمر واقع بالقوة هو تهديد مباشر للأمن القومى المصرى والعربى.
يستخدم نتنياهو التصريحات السابقة لإعادة ترسيخ صورته الذهنية أمام جمهور يمينى متطرف يطالبه بمواقف متشددة، خاصة فى ظل أزماته الداخلية سياسياً وقضائياً. غير أن هذا الاستخدام السياسى الداخلى.. قد ينعكس خارجياً فى صورة مغامرات غير محسوبة، تضع إسرائيل فى مواجهة مباشرة ليس فقط مع الفلسطينيين، بل مع دول الاقليم العربى والمجتمع الدولى. وعلى العالم أن يدرك أن التساهل مع الخطاب التوسعى الإسرائيلى.. يمنحه شرعية زائفة، ويشجع على سياسات الأمر الواقع، وهو ما يهدد بتفجير كل ما تبقى من طموحات فى تسوية سياسية عادلة.
علمتنا تجارب التاريخ ودروسه أن الأطماع لا تتوقف عند حدود الخريطة، وأن الأمن الحقيقى لا يرتكز على حسن النوايا، بل على قراءة حقيقة لواقع ما يحدث. إن الحديث عن “إسرائيل الكبرى” ليس مجرد حلماً أيديولوجياً، بل هو مشروعاً سياسياً.. يحاول من يبشر به.. تنفيذه على مراحل عبر استغلال الأزمات الإقليمية وانشغال العالم بأزمات أخرى.
نقطة ومن أول الصبر..
تصريحات نتنياهو الأخيرة ليست مجرد كلام عابر، بل هى جرس إنذار جديد.. يؤكد أن الصراع العربي– الإسرائيلى لم يقتصر يوماً فقط على الحدود الجغرافية، بل هو صراع على حق الشعوب فى الوجود والسيادة. إن مصر، بتاريخها وثقلها، لن تسمح بأى مساس بأمنها أو بأمن الاقليم، وستظل ثابتة ومرتكزة على مواقفها الوطنية والعربية فى الدفاع عن حق الشعب الفلسطينى ورفض كل المشاريع التوسعية التى تهدد المنطقة.