ظلّ الأشياء الغائبة

بقلم الدكتور/ خالد السلامي
الجمعة 01/08/2025
لا يجيء الغياب صامتًا كما نتوهم. للغياب لغة خفية، لا تُكتب بحروف ولا تُسمع بأذن، لكنه يترك خلفه أثرًا يشبه الظلال الممدودة في آخر النهار. كل ما يغيب عنّا يترك نسخة غير مرئية من نفسه، نسخة أخفّ وزنًا لكنها أثقل على الروح. هذا الأثر الصامت يرافقنا في الطرقات، يطلّ علينا من بين الفراغات التي لم نعد نملؤها، ويجلس معنا في الغرف التي فقدت أصواتها.
الغياب ليس اختفاءً كاملًا، بل حضور من نوع آخر، حضور بلا جسد. أحيانًا يكون أثره أشد من أثر الحضور نفسه. حين يغيب الشيء أو الشخص أو اللحظة، يتضاعف حضوره داخلنا. يتحول إلى فكرة تتجول في الصدر بلا استئذان، إلى صدى يتردد في الذاكرة عند أقل محفز، إلى إحساسٍ يلاحقنا بين نوم ويقظة. في كل غياب اختبار لقدرتنا على الإصغاء لما وراء الصمت، ولما لا تقوله الحياة صراحةً.
ثمة ظلّ لكل ما نفتقده. هذا الظل لا يراه الآخرون، لكنه يتبعنا نحن وحدنا. يظهر في الأوقات غير المتوقعة، حين نمرّ بمكان مألوف أو نستمع إلى لحن قديم أو نشمّ رائحة كانت مألوفة في زمن مضى. الظلّ يتجول معنا بين الطرقات، يشاركنا لحظات السكون، ويذكّرنا بما كان هنا ثم مضى. إنه يترك شقوقًا صغيرة في اليوم العادي، شقوقًا يتسرّب منها الضوء أحيانًا… وأحيانًا يتسرّب منها الحنين.
مع مرور الوقت، نتعلّم أن نتعايش مع هذا الظل. لا نطرده، لأنه جزء من الذاكرة والروح. ولا نسمح له أن يبتلعنا بالكامل. فقط نتركه يشاركنا صمتنا ونمضي. الغياب معلم صامت: يعلّمنا أن الأشياء لا تُمتلك حقًا، وأن ما نراه ثابتًا قد يتحول إلى ذكرى في لحظة خاطفة. كل غياب يترك درسًا غير معلن: أن الحياة مؤقتة، وأن كل حضور معرض لأن يصبح غيابًا، وكل اكتمال يمكن أن ينقلب إلى فراغ.
الظلّ الذي يخلّفه الغياب له طبيعة مزدوجة. هو في الوقت نفسه ثقيل وخفيف. ثقيل لأنه يضغط على القلب في لحظات الوحدة، وخفيف لأنه لا يُمسك باليد ولا يُقاس بالعين. هذا الظلّ يرافقنا إلى أماكن لم نخطط للذهاب إليها، يظهر فجأة في منتصف الطريق، على كرسي فارغ في مطعم مزدحم، في مقعد جانبي في سيارة أجرة، أو في صدى صوت بين جدارين. إنه يذكّرنا بما نفتقده دون أن يتكلم، ويمتحن صبرنا على الحياة كما هي.
أحيانًا، يتحول هذا الظلّ إلى محفّز للتأمل. يجعلنا نعيد النظر في ترتيب أولوياتنا، في معنى الامتلاك والفقد، في طبيعة الوقت الذي نظنه طويلًا وهو في الحقيقة قصير. الغياب يمنحنا وعيًا مختلفًا: وعيًا يلتقط التفاصيل الصغيرة التي كنا نتجاهلها في زحمة الحضور. نكتشف أن الحياة الحقيقية ليست فقط فيما نملكه، بل أيضًا فيما نفتقده وما نشتاق إليه. الغياب يعيدنا إلى الداخل، إلى مساحة هادئة حيث يمكننا أن نسمع أنفسنا بوضوح.
في لحظات الليل الهادئ، يصبح ظلّ الغياب أكثر وضوحًا. حين تسكن الأصوات وتخفت الحركة، تبدأ الذاكرة في استعادة صورها. الأشياء الغائبة تتحول إلى حضور داخلي مكثّف، كأنها تجلس معنا في الغرفة نفسها، ولكن على بعد خطوة من الإدراك الحسي. هذه اللحظات تكشف لنا هشاشتنا كبشر، وتجعلنا ندرك أن معظم حياتنا الداخلية مشدودة بخيوط غير مرئية إلى ما ليس موجودًا أمامنا.
والمفارقة أن هذا الظلّ لا يختفي أبدًا تمامًا. قد يخف حضوره حين ننشغل بالحياة اليومية، لكنه يعود في أوقات السكون أو أثناء لحظات الانكسار والحنين. إنه يشبه صفحة ماء ساكنة تعكس وجوه الغائبين والأشياء التي تركت أثرها فينا. وكلما حاولنا تجاهله، عاد إلينا بشكل آخر: في حلم عابر، في ذكرى غير مكتملة، في شعور غامض يضغط على القلب دون سبب واضح.
مع الوقت، يتغير موقفنا من هذا الظلّ. في البداية نقاومه، نحاول نسيانه أو التظاهر بعدم وجوده. ثم نصل إلى مرحلة القبول، حيث ندرك أن الغياب جزء من حياتنا مثل الحضور تمامًا. نتعلم أن نترك للظلّ مكانه في ركن هادئ من القلب، دون أن نسمح له بأن يسيطر على كل شيء. هذا القبول ليس استسلامًا، بل هو نضج عاطفي. هو وعي بأن الإنسان لا يمكنه أن يملأ كل الفراغات، وأن بعض النقص سيبقى دائمًا جزءًا من التجربة الإنسانية.
الفلاسفة والمفكرون تحدثوا كثيرًا عن قيمة الغياب في تشكيل الوعي الإنساني. فالحياة ليست فقط بما نملكه أو نعيشه، بل أيضًا بما نفتقده وما يغيب عنا. الحنين، وهو الوجه الشعوري للغياب، قد يكون دافعًا للإبداع والتأمل والفهم الأعمق للذات. كل لحظة فقد تعلمنا درسًا جديدًا عن أنفسنا وعن الآخرين. كل غياب يكشف لنا هشاشتنا، لكنه أيضًا يمنحنا فرصة لنصبح أكثر رحمة وتعاطفًا مع من حولنا.
في النهاية، يبقى السؤال معلّقًا: هل نحن من يلاحق ظلّ الأشياء الغائبة، أم أنّها هي التي تلاحقنا في أعماقنا؟ هل نحن من نصنع هذا الظل بذاكرتنا وحنيننا، أم أن الحياة نفسها تترك فينا آثارها كما تترك الريح تموجات على سطح الرمال؟ لا أحد يجيب بشكل نهائي. وربما لا حاجة للإجابة أصلًا. يكفي أن نتأمل هذا الظل ونتركه يمرّ فينا بهدوء.
الظلّ يلمحنا أحيانًا، ونحن نلمحه دائمًا. نتصالح معه حين نفهم أن الحياة خليط من الحضور والغياب، من الامتلاء والفراغ، من الأشياء التي بين أيدينا والأشياء التي افلتت منا. وكلما تعلّمنا التعايش مع ظلّ الأشياء الغائبة، صرنا أكثر قدرة على الاستمتاع بما هو حاضر، وأكثر استعدادًا لتقبّل ما سيغيب لاحقًا. وهذا، في حد ذاته، حكمة تحتاج عمرًا كاملًا لاستيعابها.
المستشار الدكتور خالد السلامي ..عضو الامانه العامه للمركز العربي الأوربي لحقوق الإنسان والقانون الدولي وممثل عنه في دولة الإمارات العربية المتحدة
المستشار الدكتور خالد السلامي حصل على “جائزة أفضل شخصيه تأثيرا في الوطن العربي ومجتمعية داعمه ” لعام 2024
حصل المستشار الدكتور خالد السلامي – سفير السلام والنوايا الحسنة وسفير التنمية ورئيس مجلس إدارة جمعية أهالي ذوي الإعاقة على جائزة الشخصيه المؤثره لعام 2023 فئة دعم أصحاب الهمم .
وحاصل أيضًا! على افضل الشخصيات تأثيرا في الوطن العربي لعام 2023 ؛ ويعد” السلامي “عضو اتحاد الوطن العربي الدولي وعضو الامانه العامه للمركز العربي الأوربي لحقوق الإنسان والقانون الدولي .والممثل الرسمي للمركز في دولة الإمارات العربية المتحدة
كما حاصل على “جائزة أفضل شخصيه مجتمعية داعمه “وذلك لعام 2024 وعضو في المنظمه الامريكيه للعلوم والأبحاث.
ويذكر أن ” المستشار خالد “هو رئيس مجلس ذوي الهمم والإعاقة الدولي في فرسان السلام وعضو مجلس التطوع الدولي وأفضل القادة الاجتماعيين في العالم لسنة 2021.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى