الرشيد علي عمر يكتب: قطار الشوق


ربما، إن لم تركض ربة الشعر إلى الشاعر علي محجوب عبد الرحمن، ابن عطبرة، وتلهم مخيلته في سنه المبكرة، لكان ميقاتها محطة رمسيس، قلب عاصمة الكنانة…
لجاء يومها علي محجوب من أحد أحياء المدينة العريقة: شبرا، إمبابة، عابدين… فتواجد في رمسيس لحظة تلكم المشاعر الجياشة التي هطلت مدراراً، ما بين حازم حقيبة مرتحل، أو لهفة مودّع تنتابه أحاسيس القلق على ذويه، ويحمله ذات الأشواق إلى حين…
لوحة الشوق التي جسّدها علي محجوب انداحت بالمقاس في أرجاء المحطة، وكما قال “سيدا” وسيد أبوها وأمها وأسطورة جيله هيثم مصطفى:
“غاب التاجر الشاطر، الذي فوّت لحظة بيع المناديل بأضخم الأعداد، لأنها ستتناصف ما بين عين مدمعة وجبين يقطر عرقاً جرّاء رطوبة الأجواء الساخنة…”
ألف وخمسمائة راكب يغادرون…
هل تعووا معي حجم الكثافة… والازدحام… والعفش… والأنفاس اللاهبة، والأشواق المتسرّبلة لباس الشهقة والزفرة…؟
متين ترحل تودّينا…
ما كانت حرفاً انقلب مع بقية الأحرف لخانة التعبير شعراً،
بل كانت تعبيراً جسّدته الوجوه التي تناجي القطار بشغف الالتياع الضارب في أعماق الترقب…
ضجيج…
وصخب يعم المكان…
اللهجتان المصرية والسودانية صداهما يشق أستار جدران المحطة، وهو يشكّل لوحة جديدة:
(ما بين حضن آمن احتوى… وأفئدة ممتنّة تبحث عن رد بليغ بلغة القلوب، فلا تجد سوى الترنّم: فعلاً فعلاً… إنحنا الإتنين مصيرنا سوا).
والمنظومة…
منظومة الصناعات الوجدانية…
منظومة الرجال المجتمعية…
منظومة التكاتف والتعاضد والتآلف، وستر المواطن المغلوب على أمره…
“من ستر مؤمناً…”
فما بالكم بأجر من يستر الآلاف المؤلفة في كل البقاع…
وعُمان، وثلاثة ألف أسرة، تحكي بلسان حالها التفويج بالجو ومقدار تكلفته الباهظة…
وميادين الزرع والضرع الشاسعة في أرضنا البكر تحكي…
والتكفّل بأعباء معاش الألوف، قصة تحكيها الأيادي اليمنى التي تمنح، ولا تدري يُسراها ماذا قدّمت يُمناها…
المنظومة الحبلى بإنجاب الكواسر من زمقان، لميرغني إدريس…
والمنظومة هي هي ذاتها …
الملامح… الشبه… الصلابة… الصناعية… الابتكار… النبوغ… والرجال… و… “المحنة”، العلامة الفارقة في تربيتنا من زمان…
أميمة والتاج، ثنائي الدهشة، ومن تحمّلا مشقّة غوغاء أهلنا وكثرة الأسئلة، وعدم الاستجابة لضوابط التنوير، ومنهم من يسأل وبراءة الأطفال في أعينهم:
يا أميمة، لمن أصل حلفا بلاقي بت أخوي؟
أو من يسأل التاج:
عليك الله في عطبرة فول فريد المحطة بنلقاهو فاتح ولا قافل؟
أميمة تبتسم ابتسامة المستوعب…
والتاج يهز رأسه، فلا تدري أهو أجاب، أم امتعض، أم استغرب سذاجة المطروح…
وبحنكة الخبراء، يرسم ميرغني معالم المحافظة على كرامة المواطن من على البُعد…
معركة الأرض دفاعاً عن العرض…
ومعركة النماء…
ومعركة التصنيع الخلّاق… وسفروت آخر الأنباء…
ومعارك الحفاظ على ماء حياء النازح، وإعادته معزّزاً مكرّماً، مجاناً: رحلة ووجبات…
ولأنه عمل مهول، كان لا بد أن يكون حضوره الإعلامي متفرداً…
وكم سعدنا بلُقيا رفاق المهنة: بخاري بشير، ومحمد عبد القادر، ومصعب محمود، ومحجوب عثمان، وعزمي عبد الرازق، ومليحة الحضور: نسرين سري، التي حلّقت بمهنيتها ما بين حوار، واستنطاق، وبودكاست مباشر، هنا وهناك…
ولم نجد الطاهر ساتي ..
لان مناوي ليس من بين الحضور …وكدا …
والسفير عدوي حضوراً…
أمهر جناح أيسر في زمانه، وملعب المهندسين يشهد لعماد عدوي بالمهارة التي تجعل سعادتو منير يختاره بجانب عادل أمين ومغربي قبل البقية…
منير من يومه ما بحب يتغلب…
وما بنقدر نقول شي…
لواء بكل صرامة، الوجه الآخر، ونتقبّل الركض محاولين إيقاف مد من يختاره، وليس لدينا سوى الامتعاض والهمهمة والتضجر…
فعلاً…
فعلاً…
فعلاً…
المنظومة… وطن.
شطبنا…