زياد الرحباني… من خشبة المسرح إلى رحلة الخلود: حكاية إنسان ووطن

بقلم الاعلامية : سفانة الديب

لا يحتاج زياد إلى مقدمة ، هو الذي ظلّ طيلة خمسين عامًا، يُقدّمنا نحن .. أصواتنا المكبوتة، غضبنا الصامت، ضحكنا المرّ، ومسرحنا الواقف على حافة السخرية والانهيار .
في الشرق الأوسط ، حيث تذوب السياسة في الفن ، ويولد الجمال من رحم الألم ، هناك قامات فنية لا تتكرر ورحيل أحدهم ليس خبراً، بل وجع في الذاكرة وانكسار في القلب .
لم يكن زياد الرحباني مجرّد موسيقي عبقري، ولا كاتبًا مسرحيًا ساخرًا فحسب ، بل كان حالة استثنائية في الوعي اللبناني والعربي، جمعت الفن بالسياسة ، والمزاج الشخصي بنبض الشارع ، والنكتة العابرة بجراح الأمة العميقة .
ولد في قلب عائلة أسطورية ، لكنه شق طريقه الخاص ، ليكون صوته المختلف وسط الضجيج ، ونبض المعترض المتمرّد في زمن الخضوع .
كان زياد الرحباني ظاهرة ، ابن فيروز وعاصي، نعم ، لكن إرثه لم يُبْنَ على اسم العائلة ، بل على اختياراته الحرة ، وموسيقاه التي لاتُقلِّد، وصوته الذي قال “لا” حين كان الجميع يهمس “نعم”
بدأ إبداعه يظهر منذ الصغر ، ففي السابعة عشرة من عمره كتب للمسرح لا ليروي حكاية بل ليصنع مواجهة ..
برحيله، لا يغيب فقط صاحب “نزل السرور” و “بالنسبة لبكرا شو؟” ، “فيلم أميركي طويل”، “لولا فسحة الأمل” بل يغيب عقلٌ ساخر، ولسانٌ ناقد، وقلبٌ خائف على وطنٍ كان وما زال في غرفة الإنعاش
لم تكن مسرحياته عروضًا فنية، بل مرافعات فكرية ساخرة في وجه الطائفية والسلطة والخراب المجتمعي
كتب بلهجة الناس، لأجل الناس ، وفي زمن امتلأ بالمجاملات، كان زياد فاضحًا أنيقًا، يعرّي الواقع دون أن يفقد دهشته .
لكنه لم يكتفِ بالمسرح بل كان – قبل أي شيء – موسيقارًا يكتب بالألم، ويعزف بالجرح
من “سألوني الناس” إلى “البوسطة”، من “كيفك إنت” إلى “عودك رنان ، ومن “سلملي عليه” إلى “حبيتك تنسيت النوم” …”،
لحّن لفيروز، لكنها لم تكن فقط أمّه… كانت صوته الأنثوي الداخلي، كانت حبّه للحن، وكانت الوطن الذي لايموت ولا يخذل .
في ألبوماته، أعلن مواقفه بوضوح ..
“أنا مش كافر” لم تكن أغنية ، بل صرخة وجودية في وجه التهميش
“مونودوز” كان اعترافًا علنيًا بالاكتئاب كحالة اجتماعية،
“إلى عاصي” كان وداعًا مؤلمًا للرجل الذي أسّس الحلم .
موسيقاه مزجت الجاز الغربي بالحزن الشرقي، وكسرت قواعد التلحين الموروثة ، وكسرت معها الحواجز بين النخبة والشارع .
كان زياد فنانًا لا يُهادن ، لم يتصالح مع السلطة، ولم يركع لأضواء الشهرة، ولم يُفلتر مواقفه .
عاش فناناً حراً… وخسر كثيرًا مقابل تلك الحرية
لكنه ظلّ صوتًا حيًا في كل بيت عربي، صوتًا يقول ما لا يُقال، ويعزف ما لا يُحتمل .
في لحظةٍ ما، لم يعد زياد مجرد فنان ، صار ذاكرة.صار مكانًا نلجأ إليه حين تَثقُل الأيام ، وصار مرآة لناس تعبت من التجميل ومن التغني بالوطن .
فقال الوطن كما رآه: متعب، ساخر، مجنون، ولا يُحتمل
دخل حياتنا من خشبة مسرح صغيرة،وقف على أطرافها وقال: “بالنسبة لبكرا، شو؟ ”
ومن يومها، لم نعرف كيف نُجيب!!
كتب عن الحب كما لم يُكتب أحد ، عن السياسة كما لا تُقال،
عن الحرب من داخل البيوت، لا من وراء الميكروفون ،
ثم انسحب تدريجيًا، مثل عازفٍ يعرف متى يُسكت الآلة،
لكن صدى روحه ظلّ حاضرًا… فيروز تهمس عنه فخورة به :
“يا حبّذا ريح الولد
ريح الخزامى في البلد
أهكذا كلّ ولد؟
أم لم يلد مثلي أحد؟”
نعم، لم يُولد مثلك أحد
يمضي زياد إلى رحلته الأخيرة ، تاركًا خلفه إرثًا لا يُشبه أحدًا… كلماته تظل تتردد ، وألحانه ترفض الصمت ، ووجهه المعبّس بابتسامةٍ مرّة ، يطلّ من ذاكرة جيلٍ كامل .
برحيله لا نودّع فنانًا فقط ، بل نودّع زمنًا كاملًا، زمنًا كان فيه المسرح بيتًا ، والبيانو غضبًا ، والنكتة وعيًا، والحقيقة تُقال… والحرية تصرخ بالحق ..
رحل زياد الرحباني ، الذي علَّمنا أن نحبّ الوطن رغم وجعه، وأن نضحك من شدة البكاء
ها هو الآن يسافر بلا جوازٍ أحمر، ولا حقيبةٍ مثقلةٍ بالنوتات،
رحل تاركًا وراءه حنينًا لا يُعزف .
نمْ بسلامٍ يا من جعلت الصمتَ موسيقى، والألمَ قصيدة،
والحقيقةَ نكتةً تبكينا .
وداعًا زياد، رحلتَ كما عشت… مختلفًا ، تركت المسرح، ومضيت إلى الخلود ..
لكننا سنبقى هنا، نحاول الإجابة عن السؤال الذي تركته معلقًا
بالنسبة لبكرا… شو؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى