د. أسامة السعيد يكتب: أفاكـــون .. أفاقـون!!

فى إحدى الممالك القديمة، كانت هناك مدينة جميلة تُحيط بها المرايا من كل جانب. هذه المرايا لم تكن عادية، بل كانت تُظهر الحقيقة كما هى، بلا تجميل أو خداع. وكان أهل المدينة يمرون يوميًا بجانبها، يرون أنفسهم كما هم، فيفرح الصادقون بصدقهم، ويشعر بالخزى من اعتاد الكذب.
لكن بعد سنوات، ظهر بين الناس رجل يُدعى «صاحب الظلال»، كان خطيبًا بارعًا يتقن تلوين الكلمات، ويجيد التلاعب بمشاعر الناس ويتظاهر بالتقوى والورع، لكنه يُخفى الحقيقة عن عمد.
بدأ «صاحب الظلال» يقنع الناس أن المرايا تُسيء إليهم، وأن ما يرونه فيها مجرد خداع وعرض زائل وأنه وحده مَن يملك الحقيقة المطلقة، ومع كثرة تكراره الممنهج للكذب، صدقه الناس، وتهشمت المرايا واحدة تلو الأخرى، حتى أصبحت المدينة ضحية أكاذيب «صاحب الظلال»، فالناس يرون الحقيقة بأعينهم لكنهم ينكرونها، ويتهمون العالم بالجهل، ويلتف العامة حول كل من يرضى عنه «صاحب الظلال» ويمنحه بركته.
حتى عندما جاء واحد أهل المدينة المخلصين يحمل مرآة صغيرة فى حقيبته وأراد أن ينظر الناس لوجوههم الحقيقية فيها فرفضوا وهاجموه، مستسلمين لما يريدهم «صاحب الظلال» فقط أن يروه فاندهش الرجل المخلص قائلًا قبل أن يغادر المدينة: «ما هذه المدينة الغريبة؟ الناس فيها يخافون من أن يروا وجوههم!»
ما أحوجنا اليوم إلى قراءة هذه القصة القديمة بمزيد من التأمل، فهى تجسد جانباً من المعاناة التى يعيشها الإقليم والعالم تحت وطأة الكذب الممنهج الذى تمارسه دول، وترعاه تنظيمات، وتنفذه جهات لا تريد للعالم أن يرى الحقيقة، ولا أن يسمع صوت الحق، بل أن يبقى أسيرًا لرواية متهافتة تروجها أدوات مصطنعة، كل هدفها التشويه والتضليل لخدمة أغراض سياسية.
■■■
والحقيقة أن آفة الشرق الأوسط منذ سنوات طويلة، أنه بات ضحية العديد من الأكاذيب الممنهجة التى قادت إلى كوارث حقيقية، فأكبر الأكاذيب التى عانت منها المنطقة كانت الكذبة الإسرائيلية وتلك الأسطورة الزائفة عن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، فضلًا عن سيل لم ينته من الأكاذيب المتلاحقة عن «واحة الديمقراطية التى تحيا فى محيط من الكراهية»!
بينما الحقيقة هى أن إسرائيل لم تكن سوى دولة تصنع الكراهية وتتعيّش عليها وتتكسب من وراء ادعاء الاضطهاد، بينما هى من يتفنن فى ممارسة ذلك الاضطهاد للشعب الفلسطينى الذى أنكرت وجوده فى البداية، ثم سعت على مدى ثمانية عقود إلى قتله وتشريده واقتلاعه من أرضه، لكن الحقائق كانت دائمًا أقوى من كل الأكاذيب، ولا يزال ذلك الشعب المرابط على أرضه صامدًا فى وجه آلة عسكرية لا تعرف سوى البغى والتجبر على الأبرياء العزل، ولا تستقوى سوى على المدنيين الذين يدفعون ثمن اختلال المعايير الدولية وازدواجية المبادئ الغربية!!
تمارس إسرائيل على مدار الساعة فنون التزييف والكذب، والغريب أنها تتخذ من منابر المنظمات الدولية منصات لإطلاق طوفان التضليل، بل وتقف بوقاحة وفجاجة لا تُحسد عليها أمام محكمة العدل الدولية (أعلى مستويات التقاضى فى العالم) لتحاول التنصل من الاتهامات التى تحاصرها، وتغسل أياديها الملطخة بدماء الفلسطينيين، وتلقى بالمسئولية على دول وأطراف أخرى، فى محاولة بائسة ويائسة للتهرب من مسئولياتها كسلطة احتلال.
وكان أغبى وأسخف تلك الأكاذيب ما ادعاه فريق الدفاع الإسرائيلى من أنه لا يمنع دخول المساعدات إلى قطاع غزة، وحاول إلقاء المسئولية على مصر، متجاهلًا أن إسرائيل تغلق كل معابرها الستة مع القطاع المحاصر، وقامت باحتلال الجانب الفلسطينى من معبر رفح، لتغلق الشريان الوحيد الذى ظل مفتوحًا لإغاثة الأشقاء فى القطاع الفلسطينى وخروج مرضاهم ومصابيهم لتلقى العلاج فى المستشفيات المصرية.
تناسى ساسة تل أبيب ولحسوا سريعًا تصريحاتهم المتشنجة وتعهداتهم العنترية بعدم دخول أية شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة، بل وتهديد أحد وزرائهم بضرب غزة بالقنبلة النووية، وهذه بالمناسبة قضية أخرى يمكن إدراجها فى لائحة لا تنتهى من التضليل الإسرائيلى الذى لا يعترف بامتلاك قنبلة ذرية، لكن تصريحاتهم المسجلة صوتًا وصورة كانت دليل إدانة دامغ على عقلية الإبادة الجماعية والقتل بدم بارد، الذى تمارسه قوات الاحتلال بحق الآلاف من أبناء الشعب الفلسطينى ليل نهار.
■■■
الأغبى والأسخف من الأكاذيب الإسرائيلية، كان محاولات بعض الأطراف والتنظيمات فى المنطقة للتماهى مع المصالح الإسرائيلية، والاندفاع فى مستنقع الكذب والتضليل والتشويه، طالما أن الهدف هو مصر.
هؤلاء الأفاكون والأفاقون من أتباع جماعة «الإخوان» الإرهابية والتنظيمات والتيارات المتحالفة معها والتى تدور فى فلكها، أعماهم الغل والكراهية لكل ما هو مصرى عن رؤية موضع خطواتهم وفى أى معسكر يقفون ولأية مصلحة يخدمون، فكل همهم هو نفث حقدهم وبغضهم ضد مصر وكل ما تحققه من نجاحات على الأرض، تفضح فاشيتهم وفشلهم وتثبت كل لحظة أن تخلص مصر منهم كان نعمة كبرى يجب أن يحمد المصريون الله عليها أبد الدهر.
والحقيقة أن الكذب ليس بالأمر الجديد على الجماعة الإرهابية بكل أذرعها ومستوياتها، فمنذ تأسيسها عام 1928، اتخذت «الإرهابية» نهجًا دعائيًا يعتمد على الكذب والتضليل كوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية والتنظيمية.
بل لا نبالغ إذا قلنا إن هناك ما يمكن تسميته بـ «فقه الكذب عند الإخوان» فالكذب فى الذهنية الإخوانية ليس مجرد سلوك عابر، بل هو منهج تنظيمى يُدرّس داخل اللقاءات التنظيمية، ويُقدّم على أنه «حنكة سياسية» و»أسلوب لإدارة الأزمات». ويُستخدم لتبرير التناقضات بين الشعارات الدينية والممارسات السياسية، تحت غطاء «الضرورة التنظيمية».
والأدهى أن الجماعة التى تدعى النقاء والتقوى تختلق لنفسها من الذرائع الشرعية ما يبرر ترويج الكذب تحت شعار «التقية» أى إبداء أقوال وأفعال تتناقض مع ما يخفيه العنصر الإخواني، فضلًا عن ابتداع مخارج شرعية تسوغ له ممارسة «الكذب الحلال»، دون أى شعور بالحرج أو الإثم!!
ومع تطور وسائل الإعلام، تحولت الأكاذيب إلى حملات ممنهجة تستهدف الدولة المصرية ومؤسساتها، وتُستخدم فيها أدوات رقمية متقدمة لتزييف الحقائق وتضليل الرأى العام، وقد نجح أتباع الجماعة الإرهابية أن يجدوا لأنفسهم موقعا وموضعا فى الفضاء الإلكتروني، فهو بيئة مثلى لمن يجيد التخفي، ويحترف العمل فى الظلام.
ولا أحتاج إلى تذكير القارئ بسيل الأكاذيب التى كنا – كمصريين- شهودًا عليها، من شعارات «مشاركة لا مغالبة»، ومزاعمهم بشأن قدراتهم التنظيمية وإدعاءاتهم عن مهاراتهم الإدارية، وصولا إلى افتراءاتهم وشائعاتهم المغرضة ضد كل مؤسسات الدولة وخاصة القوات المسلحة والشرطة، والمشروعات القومية الكبرى التى حاول «أتباع المرشد» أن يهيلوا عليها التراب وأن يقللوا من نتائجها، لأنهم لا يرونها إلا بمنظار الكراهية والحقد الأعمى دون أن يخجلوا من انكشاف كل أكاذيبهم على مدى سنوات.
■■■
واليوم، وبينما تواجه منطقتنا العربية تحديات كبرى ومحاولات لتفكيكها وإشعال الحرائق فى جنباتها، تتجلى المواقف وتتكشف الحقائق، ليعرف الجميع مَن الذى يعمل دون كلل أو ملل لخدمة القضية الفلسطينية وحمايتها من مخططات التصفية والاغتيال، ويوفر الدعم والمساندة بشتى الصور الإنسانية والسياسية والدبلوماسية رسميا وشعبيا من أجل تعزيز صمود الشعب الفلسطينى وبقائه على أرضه، دون أن ينتظر جزاءً ولا شكورا، مقابل من يتاجر بالقضية ويستخدم دماء أبناء الشعب الفلسطينى ستارا يتخفى وراءه كى يحقق مكاسب سياسية رخيصة طمعا فى العودة إلى السلطة أو أملا فى أن يتلقى مكافأة من رعاته وداعميه الذين لا يزالون يستخدمونه خنجرا فى خاصرة الأوطان، و«حصان طروادة» يتسللون عبره لاختراق المجتمعات العربية وإشعال الفتنة وإضرام النار فى كل ما يمت للوطن بصلة.
فى كل لحظة تثبت تنظيمات التطرف والإرهاب أن حقدهم لا يقتصر على حكومة أو نظام سياسى بعينه، بل حقدهم وكراهيتهم الحقيقية موجهة ضد فكرة الوطن الذى لا يرونه – بحسب تعبير أحد مرشديهم – سوى «حفنة من تراب عفن»!!
■■■
مأساة غزة كاشفة للجميع. فى مرآتها سيرى العالم والإقليم الكثير من الحقائق وستفتضح أيضا العديد من الأكاذيب. وبعد أن تنجح الجهود المصرية المضنية فى وقف الحرب سيدرك العالم مَن الذى كان يعمل بصدق من أجل حقن دماء الفلسطينيين ويمد لهم يد العون والمساندة الحقيقية، ويتحمل ضغوطا هائلة كى يوافق أو على الأقل يصمت لتمرير مشروعات التهجير.
وفى المقابل سيعرف الجميع أيضا من الذى كان يبيع فى سوق «النخاسة السياسية» تضحيات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين ويستغل الصمود الأسطورى للملايين من أبريائهم من أجل أن يسترضى من يمسكون بخيوط «لعبة الأمم» كى يعيدوه إلى المشهد مجددا ويعيدوا توظيفه فى مسرحية الفوضى الإقليمية؟!
هناك مبدأ مهم يتبعه المحققون فى الجرائم ألا وهو «فتش عن صاحب المصلحة»، ومن يفتش عن أصحاب المصلحة فى التشويش والتشويه المتعمد على الدور المصرى والدعم غير المحدود التى تقدمه القاهرة رسميا وشعبيا، سيدرك الحقيقة لا محالة.
ومَن يفتش وراء المصلحة التى يسعى الداعون إلى التظاهر أمام السفارات المصرية بينما يحبسون أنفاسهم وهم يمرون أمام السفارات الإسرائيلية والأمريكية، لن يحتاج إلى جهد كبير ليدرك فى أى جانب يقف هؤلاء الأفاقون.
ومَن يسأل نفسه: لماذا تتصاعد وتيرة الافتراءات ضد الدور والتحركات المصرية كلما تزايدت الضغوط والانتقادات الدولية للممارسات الإسرائيلية، سيدرك من تلقاء نفسه من المستفيد حقا من تصاعد نباح الأفاكين؟!
ومَن يحاول أن يفهم لماذا سعت بعض الجماعات المشبوهة لتسيير قافلة مريبة نحو الحدود المصرية دون تنسيق مع سلطات البلاد، بينما كان فى مقدورهم أن يتجهوا عبر البحر إلى قطاع غزة كما فعلت قبلهم «سفن الحرية»، سيدرك بلا ريب حقيقة تلك التحركات الغامضة.
■■■
نعم، قد يقع البعض فريسة لغياب الحقيقة وهذا بحد ذاته أمر سيئ، لكن الأسوأ أن يكذب البعض ليس لأنهم لا يعرفون الحقيقة، بل لأنهم اختاروا ألا يرَوها، فمواجهة الحقيقة تتطلب شجاعة مع النفس ومع الغير.
والشجاعة الحقيقية لا تكون بالشعارات والمزاعم الخاوية والنضال الزائف على منصات التواصل الاجتماعي، بل تكون بمواجهة الحقائق واستثمار الفرص لتحقيق إنجاز على الأرض، «فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض»، وهذا ما تؤمن به مصر وتسعى لتحقيقه بشجاعة وصدق وشرف فى زمن – حقًا وصدقًا – عز فيه الشرف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى