الوساطة الصينية بين إيران وإسرائيل لوقف الحرب وعمل إتفاقية سلام

تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
الخبيرة المصرية فى الشئون السياسية الصينية والآسيوية – أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف
جاءت ردة الفعل الصينية بإدانة إنتهاك أفعال إسرائيل بشدة لكافة المعايير الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية، وإعتبرت وزارة الخارجية الصينية، بأن الهجمات على منشآت طهران النووية شكلت سابقة خطرة تداعياتها قد تكون كارثية على السلم والإستقرار الدوليين. ورداً على هذه المواجهة العسكرية المباشرة بين إسرائيل وإيران، إتخذت بكين بإستمرار موقفاً حازماً مؤيداً لإيران، مع التصريح الرسمى الصينى، بأن طهران ليست محرضة على عدم الإستقرار الإقليمى. كما ربطت بكين على الفور هذا التصعيد الإسرائيلى ضد إيران بالحرب المستمرة فى قطاع غزة، وهو صراع لطالما دعت الصين إلى حله من خلال الأمم المتحدة. كما جاءت كافة التحليلات السياسية والإستخباراتية الصينية مؤكدة بأن الوضع الحالى وإشتعال فتيل الحرب بين إسرائيل وإيران، هو أحدث إمتداد للصراع الدائر منذ أكثر من عامين فى قطاع غزة. وهو بمثابة تذكرة أخرى بأن القضية الفلسطينية لا تزال محورية لقضية الشرق الأوسط وتؤثر على السلام والإستقرار والأمن الطويل الأجل فى المنطقة. ومن أجل ذلك، ترى الدوائر الصينية بأنه إذا سمح لنيران الصراع فى غزة بالإستمرار فى الإشتعال، فمن المتوقع أن ينتشر الإمتداد السلبى لدائرة الصراع أكثر وأكثر، مما يجعل المنطقة أكثر إضطراباً.
وإنعكاساً لنفس سياق البيانات الرسمية الصينية، نظر الخبراء الصينيين إلى هذه الأحداث ليس فقط على أنها فصل آخر في الصراع الإسرائيلى الإيرانى، بل على أنها إمتداد للحرب فى قطاع غزة. وفقاً لرؤية البروفيسور الصينى “ليو تشونغ مين” من جامعة شنغهاى للدراسات الدولية والبروفيسور “تانغ تشى تشاو”، مدير مركز أبحاث التنمية والحوكمة فى الشرق الأوسط التابع لمعهد دراسات غرب آسيا وأفريقيا التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الإجتماعية، بأن: “المواجهة التى بدأت فى قطاع غزة قد توسعت الآن إلى خمس جبهات إضافية، وهى: الضفة الغربية وسوريا والعراق واليمن والبحر الأحمر، حيث يحاول أعداء إسرائيل تحويل إنتباهها وإستنزاف مواردها”.
وأجرى وزير الخارجية الصينى ومدير لجنة الشؤون الخارجية باللجنة المركزية للحزب الشيوعى الحاكم فى الصين “وانغ يى” محادثات مع نظيره وزير الخارجية الإسرائيلى. أكد خلالها “وانغ يى” معارضة الصين لإنتهاك إسرائيل للقانون الدولى من خلال مهاجمتها إيران بالقوة، واصفاً السلوك الإسرائيلي بأنه غير مقبول دولياً. وهنا جاء التأكيد الصينى، بأن الوسائل الدبلوماسية فيما يتصل بالملف النووى الإيرانى لم تستنفد، وما زال هناك أمل بحل سلمى للمسألة، مع تأكيد القيادة الصينية للرئيس “شى جين بينغ”، بأن القوة التى إستخدمتها إسرائيل فى مواجهة الإيرانيين لا يمكنها أن ترسى سلاماً دائماً وأبداً بين الطرفين. كما جاء تأكيد وزير الخارجية الصينى “وانغ يى”، بأن “الصين مستعدة لأداء دور بناء على صعيد إحتواء التصعيد فى النزاع بين طهران وتل أبيب”.
يجب فهم هذه المحادثات الصينية مع المسؤولين الإيرانيين والإسرائيليين لوقف الحرب، على أنها جزء من جهود الصين لمنع العلاقات بين تل أبيب وطهران من زعزعة الإستقرار الأمنى والبحرى والملاحى واللوجستى فى المنطقة، خاصةً مع وجود إتهامات إيرانية صريحة كذلك لعدة قوى إقليمية بتسهيل مهمة الإسرائيليين فى عبور مجالها الجوى لضرب منشآت إيران النووية، فضلاً عن الربط الحالى بين زيارة الرئيس الأمريكى “ترامب” الأخيرة لثلاث بلدان خليجية (السعودية وقطر والإمارات) وبين تنسيق الضربة العسكرية الحالية لإسرائيل على إيران، فضلاً عن تحليلات عدة دوائر سياسية وإستخباراتية صينية، بأن هناك عدة قوى إقليمية قد شاركت المعلومات الإستخباراتية مع إسرائيل بشأن الهجوم على إيران. ومن خلال تحليل الصين لكافة تلك المعطيات الجارية، ينبع إهتمام بكين بتحييد مسار العلاقات الإسرائيلية الإيرانية على الأقل فى الوقت الراهن، كجزء من دورها المحورى فى التوسط فى إعادة العلاقات الدبلوماسية بين هذين الخصمين الإقليميين ثمناً لعودة الإستقرار فى منطقة الشرق الأوسط.
ومما يدعم وجهة النظر الصينية فى هذا السياق، هو ما يشيد به المسؤولين الصينيين على الدوام، بما يسمى بموجة المصالحة الإقليمية، كدليل على فعالية (مبادرة الأمن العالمى التي أطلقها الرئيس الصينى “شى جين بينغ”). وغالباً ما يوضع هذا الإطار الأمنى البديل على النقيض من النظام الغربى، الذى غالباً ما يصوره المسؤولون والباحثون الصينيون على أنه واجهة للهيمنة الأمريكية.
وهنا تستفاد بكين من دعم طهران لعدة جماعات فى الشرق الأوسط تحقيقاً لمصالحها فى مواجهة توازن القوى مع الولايات المتحدة الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، ومن أبرزها: (جماعة حزب الله افى لبنان، وحركة حماس فى غزة). ويبدو أن الصين ومعها روسيا تعملان أيضاً على إقامة علاقات أوثق مع حركة حماس، حيث زار وفد من كبار قادة حركة حماس وباقى الحركات الفلسطينية، بما فيها حركة “الجهاد الإسلامى” التى تصنفها الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً كجماعة إرهابية كلاً من موسكو وبكين عدة مرات لتنسيق مواقفهم إزاء التصعيد الإسرائيلى فى قطاع غزة بدعم أمريكى صريح. وهنا وصفت مراكز الفكر الصينية هذا الهجوم الإيرانى الإنتقامى ضد إسرائيل بعد شنها حرباً عليها، بأنه تطور غير مسبوق فى صراعها بالوكالة طويل الأمد مع إسرائيل، وتوقعوا أن ترد إيران عسكرياً فى وقت عاجل من خلال طرف ثالث، مثل جماعة الحوثيين فى اليمن، لعرقلة حركة الملاحة البحرية فى مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس المصرية، كجزء من أوراق الضغط الإيرانية على إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لوقف الحرب عليها وعدم التمادى فى ضرب منشآتها النووية والإضرار بمصالحها وإغتيال قاداتها العسكريين وعلماؤها.
وعلى الجانب الآخر، فلدى الصين عدة أوراق ضغط فى مواجهة إسرائيل، حيث تمتلك الصين إستثمارات كبيرة فى إسرائيل، خاصةً فى قطاعى (البنية التحتية والتكنولوجيا)، وقد حافظت عليها طوال فترة الصراع فى قطاع غزة. كما تعتمد الصين بشكل كبير على ٩٠% من واردات النفط الخام، من إيران، والتى تذهب مباشرةً إلى الصين، ومن أجل ذلك ستحاول الصين لعب دور التهدئة بين طهران وتل أبيب، خاصةً وأن تلك الضربات الإنتقامية الإسرائيلية قد إستهدفت تدمير البنية التحتية النفطية الإيرانية بطريقة يمكن أن تؤثر فى تلك الصادرات النفطية الإيرانية إلى الصين، لذا فمن المرجح أن ترفع بكين صوتها فى إدانة تصرفات إسرائيل فى مواجهة الإيرانيين، بل والتدخل وعمل إتفاقية سلام بين الطرفين حفاظاً على مصالحها النفطية مع طهران. ولا تزال الصين واحدة من الدول القليلة التى تشترى النفط من إيران على الرغم من العقوبات الأمريكية عليها، كما توسطت بكين فى إتفاق إعادة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والمملكة العربية السعودية فى عام ٢٠٢٣. الأمر الذى يمكنها لعبه فى إرساء إتفاقية سلام بين طهران وتل أبيب.
أما عن وجهة نظر كبار قادة الجيش والعسكريين الصينيين إزاء الدور الإيرانى فى مواجهة الحرب الإسرائيلية عليها، فيعتقد كبير الباحثين فى معهد الصين للدراسات الدولية “تنغ جيان كون” ومدير مكتب التعليم والبحوث الإستراتيجية فى كلية قيادة القوات الجوية التابعة لجيش التحرير الشعبى الصينى “وانغ مينغ تشى” من إحتمال وقوع هجوم مباشر من إيران، وتوقعا بدلاً من ذلك أن إيران سترد من خلال وكلائها مثل الحوثيين. وفى حديث سابق مع تلفزيون الصين المركزى “السى سى تى فى”، صرح العقيد الأقدم “دو وينلونغ” من أكاديمية جيش التحرير الشعبى للعلوم العسكرية، بأنه: “إذا نقلت إيران أسلحتها إلى مناطق سوريا واليمن وغزة ولبنان، فعندئذ من خلال أطراف وسيطة ، يمكنها تحقيق مآثر حرب مماثلة للحرب الإسرائيلية عليها. لذلك، فى الخطوة التالية، يمكن لإيران التأثير على الجهات الفاعلة فى جميع أنحاء الشرق الأوسط لتنفيذ عمليات إنتقامية مشتركة ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على حد سواء”. كما أكدت الخبيرة العسكرية الصينية”لى لى”، بأن “إيران أظهرت بشكل فعال قدرتها على الإنتقام من الجانب الإسرائيلى، فضلاً عن براعة الإيرانيين فى التخطيط التشغيلى، وقدرة صناعتها العسكرية”، والتى وصفتها بأنها “منهجية للغاية وواسعة النطاق”. وشددت الخبيرة العسكرية الصينية “لى لى”، على أن “هدف إيران الآن الحقيقى هو إظهار مدى قدرتها على ضرب عمق الأراضى الإسرائيلية وتعزيز ردعها لتأمين أهداف سياسية وإستراتيجية”. كما أكد البروفيسور الصينى المعروف فى سياسات الشرق الأوسط “دينغ جون”، رئيس معهد دراسات الشرق الأوسط فى جامعة شنغهاى للدراسات الدولية، على “الطبيعة السياسية للعملية، التى تفوق أهميتها العسكرية”. ووفقاً المحلل السياسى والعسكرى الصنيى “وانغ مينغ تشى”، فإن “ضبط النفس فى الهجوم الإيرانى على تل أبيب، ربما كان بسبب هدف طهران فى عدم تحويل إنتباه المجتمع الدولى بعيداً عن غزة وإسرائيل، وهو ذاته ما يهدف إليه الإسرائيليين من شن هجوم حالى غير متوقع على طهران”.
ومن خلال فهم هذا التحليل السابق، نجد بأن الجانب الأمريكى يعول كثيراً على الصين كذلك للعب دور فى التهدئة بين طهران وتل أبيب، والمثال الأقرب إلى ذلك، هو ما طلبته الولايات المتحدة الأمريكية من الصين لإستخدام نفوذها على طهران، لكبح جماح جماعة الحوثيين فى اليمن، المدعومين من إيران، والذين يهاجمون السفن فى البحر الأحمر.