أين ترسم واشنطن الخط الأحمر عندما يتعلق الأمر بمصر فى علاقاتها مع روسيا والصين مقارنةً بدول الخليج بعد حرب غزة؟

 

 

تحليل الدكتورة/ نادية حلمى

الخبيرة المصرية فى الشئون السياسية الصينية والآسيوية – أستاذ العلوم السياسية جامعة بنى سويف

 

 

تتحرك مصر فى إطار علاقاتها بالقوى الكبرى فى إطار شبكة مصالحها، وتبنى علاقاتها الخارجية مع القوى العظمى بدقة، لهذا تبدو علاقات مصر مع الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا والصين وأوروبا علاقات متوازنة، بهدف ضمان المصالح المصرية الإقتصادية وإمتلاك فاعلية سياسية تجعل القاهرة محوراً مهماً فى التحركات الإقليمية والدولية، مستندة لتحرك مرن يقوم على إستقلال مرن فى عالم  تسعى كل دولة وكل تكتل لضمان مصالح إستراتيجية فى سياق علاقات متوازنة. فى الوقت الذى تشهد فيه القاهرة تقارب واضح وربما كامل بين القاهرة وموسكو وبكين، بسبب وجود مصالح مشتركة وسياسات متقاربة لحد التطابق بين الثلاثى (مصر وروسيا والصين). وعلى الجانب الإقتصادى، فنرى أن مصر هى سوق كبير للتبادل التجارى مع الدولتين الروسية والصينية، وهو ما عزز قوتها لدخول (تجمع البريكس) برغبة وحماس من جانب الشريكتين اللتين وجدتا فى مصر مكاناً مهماً وإستراتيجياً على المستوى التجارى والإقتصادى، وهو الأمر الذى أثار حفيظة وإستياء واشنطن. فضلاً عن تبنى الثلاثى المصرى والصينى والروسى نفس الأجندات من مجالات التعاون المتنامى بينهم، مثل: (التعاون الثلاثى بينهم لمكافحة التطرف، ومنع إنتشار الأسلحة النووية، وضمان الإبحار الآمن بالممرات المائية الدولية). وفى أكتوبر ٢٠٢٣، وافقت الصين على (برنامج لمبادلة الديون مع القاهرة) للمرة الأولى فى تاريخها، وأعلنت حينها شركات صينية ضخ إستثمارات بأكثر من ١٥ مليار دولار فى إنتاج الوقود الأخضر والتصنيع مع شريكتهم المصرية. فى الوقت الذى أعلنت فيه شركة “روس آتوم” الروسية عن التعاون مع مصر فى بناء محطة الضبعة النووية الروسية فى القاهرة. بالإضافة إلى ذلك، تم الإعلان رسمياً عن إنضمام مصر كعضو جديد فى بنك التنمية الجديد “البريكس”، الذى يمول مشاريع تطوير البنية التحتية فى الدول الأعضاء (روسيا، الصين، البرازيل، الهند، جنوب أفريقيا) فى مجموعة أو تجمع “بريكس” والدول النامية. ووصفت كتلة “بريكس” بأنها تحدى للهيمنة الأمريكية والأوروبية على المستوى العالمى، وهو الموقف الذى يشكل حجر الزاوية الأساسى لسياسة روسيا والصين الخارجية مع مصر. ويبقى الأمر الأهم لدى الجانب المصرى، بأن بنك التنمية الجديد (البريكس) يمنح الدول الأعضاء في صلاحية التعامل بعملاتها المحلية، فى التعاملات التجارية بين الدول الأعضاء فى تجمع البريكس.         

 

 وعلى الجانب الأمريكى، فقد بدأت مصر فى الفترة الأخيرة تبتعد عن مدار واشنطن، وتقترب من روسيا والصين، الخصمين الإستراتيجيين للولايات المتحدة الأمريكية. ومع تعميق القاهرة لعلاقاتها مع هاتين القوتين، فإن طموحاتها تتجاوز مجرد الحصول على صفقات أسلحة أو تقنيات عسكرية، إذ تسعى مصر والرئيس “عبد الفتاح السيسى” إلى بناء شراكات إستراتيجية شاملة لتحقيق توازن فى علاقات مصر الدولية، خاصةً بعد  تأثر علاقات مصر بإسرائيل فى الفترة الأخيرة بسبب ملف غزة بما لها من تداعيات على الأمن القومى المصرى عبر الحدود المشتركة مع أرض سيناء المصرية، وهو الأمر الذى دفع الجانب المصرى لتعزيز وموازنة علاقاته بدول فاعلة فى العالم، وعلى رأسها: الصين وروسيا. ومن أجل ذلك، إختار الرئيس الأمريكى “ترامب” منطقة الشرق الأوسط المشتعلة بعد حرب غزة، لتكون وجهته الخارجية الأولى. وشملت جولته فى منتصف مايو ٢٠٢٥، كل من (السعودية والإمارات وقطر)، حيث وقع إتفاقات عسكرية وإقتصادية وعلمية، وزار (قاعدة العديد الجوية القطرية)، وهي أكبر منشأة عسكرية أمريكية فى منطقة الشرق الأوسط. وهو الأمر الذى دفع العديد من التحليلات تتصاعد حول عدم شمول جولة “ترامب” لمصر. فى الوقت ذاته لجولة الرئيس الأمريكى الإقليمية للخليج، وقف الرئيس المصرى “عبد الفتاح السيسى”، والذى كان يعد أحد أقرب الحلفاء التقليديين لواشنطن، فى الساحة الحمراء بموسكو إلى جانب الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين”، والرئيس الصينى “شى جين بينغ” خلال (عرض يوم النصر الروسيى) الذى يتم الإحتفال به فى يوم ٩ مايو من كل عام. وبعد ذلك بوقت قصير، إحتفل قادة القوات الجوية المصرية فى القاهرة، بمرور خمسة وأربعين عاماً على بدء التعاون مع شركة الدفاع الصينية المملوكة للدولة “كاتيك”، إلى جانب الإحتفال، بأحدث إضافاتها إلى الأسطول المصرى، من خلال إستيراد طائرات “تشنغدو جيه-١٠” المقاتلة، التى تعد من أبرز منتجاتها.     

 

  مع الوضع فى الإعتبار بحرص الصين على المنافسة على مستوى توريد الأسلحة المتقدمة من الجيل الخامس لمصر ولدول المنطقة مع رفض الولايات المتحدة الأمريكية توريد صفقات أسلحة ومقاتلات أمريكية متقدمة من طراز إف-٣٥ الشبحية من الجيل الخامس إلى حليفتها الإماراتية رغم وجود وتوقيع إتفاقيات سلام إبراهيمى بين الطرفين وإسرائيل بسبب حرص واشنطن على التفوق النوعى لإسرائيل فى منطقة الشرق الأوسط، ومن أجل ذلك لجأت الإمارات والسعودية ومصر ومعظم دول المنطقة إلى الصين للحصول على بدائل الأسلحة والمقاتلات الشبحية الأمريكية بعد رفض تصديرها لهم من الجانب الأمريكى، لذا نجحت الصين فى إدخال عائلة (طائرات جيه) إلى نطاق المنافسة مع نظيراتها الأمريكية فى منطقة الخليج والشرق الأوسط. مع الحرص المصرى الشديد فى الوقت ذاته على موازنة علاقاتها بين القوى الكبرى حول العالم لتنويع مصادر شركاتها وعلاقاتها حول العالم، ولتنويع مصادر تسليح الجيش المصرى، لذا بات حرص وزارة الدفاع المصرية على التنوع فى التعاون والتدريب العسكرى المشترك مع أكبر قوى عسكرية فى العالم، ولا تركز تعاونها أو تسليحها مع قوة واحدة. حيث تتدرب فرق من الجيش المصرى كل عام مع قوات من الصين وروسيا والولايات المتحدة، وتشارك مصر سنوياً فى تدريبات (النجم الساطع) مع الجيش الأمريكى، فى أكبر تدريبات عسكرية على مستوى العالم.         

 

  أما عن أبرز أسباب التوجه الروسى الصينى نحو مصر، فقد دفع تعامل الغرب مع الأزمة الأوكرانية كلاً من موسكو وبكين إلى مزيد من الشراكة الإستراتيجية طويلة الأمد مع مصر، للسعى لإصلاح النظام العالمى وتحوله إلى نظام متعدد الأقطاب الدولية يطوى صفحة الهيمنة الأحادية الأمريكية، وبسبب تزايد العقوبات الإقتصادية الأمريكية على روسيا وتزايد شراسة الحرب التجارية الأمريكية على الصين، ومن أجل ذلك تتناوب القوتان الروسية والصينية على تحمل العبء الأكبر من حيث مقاومة الهيمنة الأمريكية مع شريكتهم المصرية خاصةً بعد تزايد حدة الضغوط الأمريكية على القاهرة بسبب رفض القاهرة للضغوط الأمريكية والإسرائيلية والغربية تجاه قضية التهجير القسرى للفلسطينيين من قطاع غزة على أرض سيناء المصرية.     

 

ولذلك، تزايدت خلال الفترة الماضية آلية التعاون والتنسيق الأمنى والعسكرى فضلاً عن الإقتصادى والتجارى بين مصر والصين وروسيا، مع إقامة عدة فعاليات تدريبية بحرية مشتركة مصرية مع روسيا، تعرف بإسم (جسر الصداقة)، وهى الفعاليات التى نفذتها وحدات من القوات البحرية من البلدين على مدى عدة أيام بالمياه الإقليمية المصرية بنطاق الأسطول الشمالى بالبحر المتوسط، وتم تنفيذ التدريب بعدة تشكيلات بحرية مشتركة، وتضمن رماية مدفعية بالذخيرة الحية، بالإضافة إلى تنفيذ تمارين للدفاع الجوي عن التشكيلات البحرية، وكذا تم التدريب على تنفيذ حق الزيارة والتفتيش وأعمال البحث والإنقاذ بالبحر، فضلاً عن عدد من محاضرات الإخلاء الطبى والإسعافات الأولية ومجابهة التهديدات غير النمطية والأمن السيبرانى. بالإضافة إلى ذلك، شهدت إحدى القواعد الجوية بمصر، وعلى مدار أربعة أيام، فعاليات التدريب الجوى المصرى – الصينى المشترك (نسور الحضارة ٢٠٢٥) بمشاركة عدد من الطائرات المقاتلة المتعددة المهام من مختلف الطرازات تتقدمهم مقاتلات الجيل الخامس الشبحية الصينية المعروفة. 

 

  ومن أجل ذلك، حذر الإعلام الإسرائيلى من التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة بين مصر وروسيا والصين بسبب توترات حرب غزة، وهو ما إعتبره الجانب الإسرائيلى، بأن هذا التعاون العسكرى المصرى مع الصين وروسيا يحمل رسائل ضمنية مبطنة لإسرائيل. حيث حذرت تقارير صحفية إسرائيلية من التحركات والتدريبات العسكرية المصرية مع كلاً من الصين وروسيا، وإعتبرت أن الهدف منها هو إسرائيل. حيث تزايدت المخاوف الأمريكية الإسرائيلية المشتركة من تزايد حدة المناورات الضخمة للجيش المصرى مع طائرات مقاتلة صينية متطورة. وهو ما دافعت عنه الصين عسكرياً ورسمياً، بأن المخاوف تتزايد فى القاهرة بشأن إنهيار الأوضاع الأمنية على حدود قطاع غزة، وإحتمال تدفق سكان غزة إلى سيناء، وهو ما دفع القوات المصرية للإنتشار بالقرب من الحدود عبر تدريبات عسكرية مشتركة مع الجانب الصينى.     

 

ومن هنا نفهم، بأن تعزيز القاهرة علاقاتها مع عواصم مثل بكين وموسكو يأتى فى إطار حقبة جديدة ونهج إعتمدته مصر فى السنوات العشر الأخيرة، إذ حرصت في سياستها الخارجية على ألا تقتصر توجهاتها الإستراتيجية سواء السياسية أو العسكرية أو الإقتصادية على قوة واحدة.         

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى