غزة ما بعد حماس: العائلات تملأ الفراغ السلطوي في ظل غياب الدولة

يارا المصري
بينما تتراجع سيطرة حماس على قطاع غزة بصورة متسارعة، تتشكّل على الأرض ديناميكيات جديدة تعيد رسم ملامح السلطة في القطاع. لم تعد حركة حماس قادرة على فرض سيطرتها كما كانت في العقدين الماضيين، ولم تعد مؤسساتها الأمنية والمدنية قادرة على تلبية الحد الأدنى من احتياجات السكان. وفي هذا الفراغ المتسع، تبرز العائلات (الحمائل) كقوة محلية بديلة، تمارس النفوذ وتوفر الحماية، بل وتدير بعض جوانب الحياة اليومية للسكان، من توزيع المساعدات إلى حل النزاعات.
ما يحدث حالياً لا يشبه انهيار سلطة وحلول دولة بديلة. ما يحدث هو انتقال تدريجي من سلطة مركزية – دينية وأمنية – إلى سلطة اجتماعية تقليدية، قائمة على النفوذ العائلي والانتماء المحلي. هذه الظاهرة ليست جديدة تماماً في السياق الفلسطيني، لكنها اليوم تعود إلى الواجهة بشكل مختلف – أقوى، أكثر تنظيماً، وأكثر قبولاً من قِبل الناس، ولو كان ذلك بدافع الضرورة لا القناعة.
خلال الحروب السابقة، وخاصة بعد حرب 2014، بدأت تظهر مؤشرات على تعاظم دور العائلات الكبرى في بعض المناطق. لكنها بقيت حينها مكملة لدور الدولة أو متعاونة معها. أما اليوم، فالوضع مختلف تماماً: الدولة غائبة، وحماس – التي كانت تعتبر نفسها الدولة – فقدت كثيراً من أدوات سيطرتها، سواء بسبب الاستهداف الإسرائيلي المتكرر، أو بسبب السخط الشعبي العميق، أو نتيجة انهيار شبكات التمويل والدعم الخارجي.
مصادر محلية أفادت بأن بعض العائلات باتت تمتلك مراكز توزيع للمساعدات تُدار بشكل ذاتي، وجهاز “مخاتير” يتولى حل النزاعات، ولجان شبابية تُشرف على الأمن في الأحياء، بديلاً عن الشرطة الغائبة. وفي بعض الحالات، تقوم العائلات بجمع تبرعات من أبنائها المغتربين في الخارج لإغاثة سكان الحي أو لتقديم مساعدات طبية.
يقول أحد سكان منطقة الزيتون في مدينة غزة: “ما في شرطة، ما في بلدية، ما في حدا. إذا صار شجار، أو إذا في مشكلة، بنروح لعيلتنا أو لناس إلهم كلمة بالمنطقة. بصراحة، هُم الوحيدين اللي لساتهم واقفين مع الناس”.
في المقابل، يرى محللون أن هذه التحولات تُعيد إنتاج نظام قديم طالما حاولت النخبة السياسية تجاوزه: نظام الزعامة التقليدية، القائم على العشيرة والحمولة والوجاهة، بدلاً من مؤسسات الدولة الحديثة. ووفقاً لدراسة أعدها “مركز دراسات الشرق الأوسط في عمان”، فإن “التحول نحو السلطة العائلية في غزة قد يؤدي إلى حالة من الاستقرار المؤقت، لكنه يحمل مخاطر جدية تتعلق بغياب الشفافية، وتكريس المحسوبية، وتعميق الانقسامات الاجتماعية”.
غير أن كثيراً من السكان، ممن فقدوا الثقة بكل ما هو رسمي، يرون في عودة الحمائل أمراً طبيعياً وضرورياً. فبعد سنوات من الفقر، والحصار، والانقسامات، والقمع، لم تعد لديهم توقعات كبيرة من أي سلطة. وكما يقول أحد المواطنين: “إحنا بدنا بس حدا يحمي ولادنا، يطمننا على الأكل والمي، ويفك الخناقات. إذا العيلة بتعمل هيك، خلص، خليها هي اللي تمسك”.
في هذا السياق، يتحدث البعض عن نشوء ما يشبه “البلديات الأهلية”، حيث تقوم العائلات بإدارة الأحياء بشكل مستقل، بعيداً عن أي تنسيق مع حكومة غزة أو الجهات الرسمية. ويبدو أن هذه النماذج بدأت تتكرّس في مناطق مثل بيت لاهيا، وحي الشجاعية، وخانيونس، وغيرها، مما قد يُعيد تشكيل الخريطة السياسية والاجتماعية في غزة خلال السنوات القادمة.
ثمة من يقارن ما يحدث في غزة اليوم بما حدث في دول مثل ليبيا بعد سقوط القذافي، أو في العراق بعد 2003، حيث أدى انهيار السلطة المركزية إلى بروز قوى محلية – عشائرية أو طائفية – تولت زمام الأمور في غياب مؤسسات الدولة. ورغم الفوارق الكبيرة، إلا أن القاسم المشترك هو أن الناس، حين يُتركون دون حماية، يبحثون عن أقرب جهة توفر لهم الحد الأدنى من الأمان والاحتياجات.
ومع استمرار الفوضى، وتآكل ما تبقى من سلطة حماس، يبدو أن هذه “اللامركزية العائلية” قد لا تكون مجرد مرحلة انتقالية، بل نموذجاً قائماً بحد ذاته، على الأقل في المدى القريب. السؤال المطروح هو: هل تستطيع هذه القوى العائلية أن تتطور نحو شكل من أشكال الحكم المحلي المنظم والمسؤول، أم أننا أمام مرحلة جديدة من الانقسام والفوضى المقنّعة؟
في ظل غياب بديل سياسي حقيقي، ووسط تعقيدات الوضع الإقليمي، قد لا يكون أمام سكان غزة خيار آخر سوى التعامل مع الواقع كما هو. العائلات، بحسناتها وسيئاتها، هي من تبقى في الميدان. وربما يكون من الحكمة التفكير في كيفية توجيه هذا النفوذ نحو بناء شيء أكثر تماسكاً – لا رفضه بشكل مطلق، ولا تسليمه مفاتيح الحياة دون حساب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى