المثقف العربي بين الثورة والثورة المضادة

 

بقلم د. ليلى الهمامي
استاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن

ميّز أنطونيو غرامشي بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي. والمثقف العضوي هو المثقف الملتزم بقضايا الجماهير المستغَلة والمضطهَدة والذي يصهر فكره في الحراك الاجتماعي من اجل الانعتاق والتحرر وهو في وضعه هذا يُحجِم عن كل حياد، بل إن كل أشكال التعبير الفنية من شعر وموسيقى ورقص وادب ومسرح وسينما تشكل لحظات فكر تقدمي يتوق الى الحرية والعدالة تؤسسه الفلسفة والفكر السياسي عامة.

هذا المثقف العضوي المناضل والمضطهد في صورة ماركس المطرود والملاحق من جل الاقطار الاروبية والمهدد في قوته، إلى غرامشي السجين الى ما عرفته مدارس المعارضة العربية من عسف وعنف واضطهاد… هذه الصورة تقابلها وتعارضها صورة المثقف التقليدي… والمثقف التقليدي هو مثقف المؤسسة، مثقف السلطة الملتزم بالذود عن النظام القائم المعقلن له المشرّع لوجوده باعتباره تجسيدا لمقاصد العقل وتحقيقا لمصالح الشعب والامة.

ويمثل الحقل الفني ساحة صراع ومواجهة بين معسكرين، بين معسكر ينتمي الى الايديولوجيا التقليدية وهي ايديولوجيا الإثارة والاستهلاك من اجل تخريب الوعي، ويمثلها المسرح والسينما التجارية المصرية التي اغرقت المشهد الفني العربي والتي كانت عصا النظام التي بها يُحكم القطيع.

هذا المعسكر واجه تيار الالتزام الذي مثله صلاح ابو سيف وعاطف الطيب ويوسف شاهين وحسين كمال ورأفت الميهي وغيرهم… إضافة لاحمد فؤاد نجم في الموسيقى والشيخ امام .

دغمائية بعض مدارس المعارضة العربية ساهمت في إفساد الوعي الجماهيري من حيث انها جعلت من التعارض بين العضوي والتقليدي حالة مطلقة أي أن كل ما يمكن أن يصدر عن أية سلطة هو رجعي وفاسد ومرفوض وأن كل ما يصدر عن المعارضات هو ثوري وتقدمي لا مجال للتشكيك فيه او نقده. وهذا عين الخطإ بل إنه الخطيئة التي تجعل من كل نسق خارج السلطة بديل وردي كما كانت الحالة الإيرانية لدى جل مثقفينا في منتهى السبعينات ومطلع الثمانينات عنوان ثورة، والحال ان رجال الدين تمكنوا من السطو على ثورة الشعب الإيراني ومصادرة حلمه في التقدم والرقي ولم يكن ذلك الا رد فعل على “الثورة البيضاء” التي طرحها الشاه من اجل نشر التعليم وتحديث المجتمع. الامر الذي دفع بطبقة رجال الدين في “قم” الى التمرد…

موضوع السلطة موضوع المجتمع والتقدم لا يُفهم بالوقوف على الأشكال الخارجية حيث يباعد بين سلطة ونظام قائم من جهة، ونظام وبديل من جهة اخرى… فقط البرامج والرؤى والمضامين هي التي تميز بين من يشكل جبهة التقدم والحرية وجبهة الاضطهاد والتخلف.

ليست المعركة في بدايتها ومنتهاها خارج مجال التعليم والثقافة والفن. مستقبل العرب ومجال معاركهم الحقيقية في الفضائات والمساحات التي تصنع الوعي وهي اربعة:

التعليم والاعلام والادب والفن.
كل قصة تكتب، وكل مسرحية تعرض وكل شريط او مسسلسل يبث وكل حوار في فضاء الإعلام وكل بحث اكاديمي… إما أن يكون ضمن الثورة او أن يكون في صف الثورة المضادة مع اعتبار ان ليس كل من عارض تقدمي وتحرري فالارهاب تنكر عندنا حاملا قناع الديمقراطية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى