استرداد تابوت مصري من بلجيكا يكشف أسرار الفن الجنائزي في مصر القديمة

 

بروكسل – إعداد : يوسف عبد القادر

في لحظة تجمع بين هيبة التاريخ وسحر الحضارة، سلط المتحف الملكي للفنون والتاريخ في بروكسل الضوء على إحدى القطع الأثرية المصرية الفريدة وهو تابوت خشبي من العصر البطلمي، يعكس روعة الفن الجنائزي المصري وما يحمله من رموز دينية ودلالات ثقافية عميقة وذلك أثناء مراسم تسليم قطعتين أثريتين مصريتين من بلجيكا الي مصر بعد نجاح البعثة الدبلوماسية المصرية في بلجيكا برئاسه السفير أحمد أبو زيد في انهاء كل الإجراءات القانونية والدبلوماسية اللازمة حيال الاسترداد والتي بدأت منذ عقد من الزمن لاثبات أن مكافحة تجارة الآثار واسترداد الكنوز المصرية من أهم أولويات الدولة المصرية بقيادة فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي.

القطعة، التي تعود إلى القرنين الرابع أو الثالث قبل الميلاد، تنتمي إلى حقبة بطليموس الأول، أحد قادة الإسكندر الأكبر ومؤسس الأسرة البطلمية في مصر.
وهي فترة تميزت بالازدهار الثقافي والتنوع الحضاري، حيث اندمجت التقاليد المصرية مع التأثيرات اليونانية، وظهر ذلك جليا في الأساليب الفنية والجنائزية.

التابوت مصنوع من الخشب، ويحمل ملامح المتوفى المحنط الذي وضع بداخله.
الوجه المطلي بالذهب والشعر الأزرق يرمزان إلى تأليه المتوفى وتحوله إلى هيئة الإله أوزيريس، سيد العالم السفلي في المعتقد المصري القديم.

وبعكس العصور الفرعونية السابقة التي كانت تعتمد توابيت متداخلة وطقوس دفن معقدة، تميزت الحقبة البطلمية باستخدام توابيت أكثر بساطة، ولكنها احتفظت بجودة عالية ورمزية قوية.

هذا التابوت خصص لرجل يدعى “با دي حور با هرد”، ويعني اسمه “الذي أُعطي لحاربوكرات” – وهو الشكل الهيليني للإله حورس الطفل.
ويشير اسمه، بالإضافة إلى معلومات مقتضبة عن والدته “تا-دي”، إلى انتمائه على الأرجح إلى طبقة متوسطة راقية في المجتمع المصري، رغم عدم وجود أي ألقاب دينية أو إدارية على التابوت.

من أبرز ملامح التابوت الزخارف الملونة التي تزين وجهه ومنطقة الصدر، بالإضافة إلى القلادة المرسومة بعناية والتي تتكون من نقوش هندسية وزهرية. كما تبرز صور الإلهات الحاميات – إيزيس ونفتيس – اللتان تقفان إلى جانب أوزيريس لحماية المتوفى، في طقس رمزي يجسد الرجاء في البعث والحياة الأبدية.

وتتوزع على التابوت أربعة أسطر من النصوص الهيروغليفية، تتنوع بين نصوص تتعلق بطقوس الانتقال إلى العالم الآخر، وتعويذات للحماية، ونصوص تهدف إلى فتح أبواب العالم السفلي للمتوفى، ومرافقته في رحلته الأبدية مع الشمس من الغروب إلى الشروق في إشارة إلى دورة الحياة والموت والتجدد التي آمن بها المصري القديم.

وصرح البروفيسور الدكتور “ستيفان باومان”، الباحث بالمتحف الملكي في وثيقة تم اهدائها الي الحاضرين بالمراسم والذي يشرفني حضوره أن هذا التابوت يعد نموذجا استثنائيا يجمع بين البساطة في التصميم والعمق في المعاني، ويكشف عن تميز الحرفيين المصريين في مزج العقيدة بالجمال، حتى في لحظات الفناء.

يبقى هذا التابوت شاهدا على حضارة لم تمت، ورسالة خالدة من مصر القديمة إلى العالم المعاصر، مفادها أن الموت لم يكن نهاية، بل بداية رحلة جديدة نحو الخلود.

لا تقتصر أهمية استرداد التابوت المصري البطلمي على قيمته الأثرية والفنية فحسب، بل تمتد لتشمل أبعادا وطنية وثقافية وحضارية ودبلوماسية عميقة. فهذا التابوت يعد جزءا من الهوية التاريخية لمصر، واستعادته تمثل استرجاعا لقطعة من ذاكرة الوطن وإرثه الذي يعكس عظمة حضارة امتدت لآلاف السنين.

كما يوجه هذا الحدث رسالة قوية ضد ممارسات تهريب الآثار التي عانت منها مصر لعقود، ويؤكد عزم الدولة على حماية تراثها بكل الوسائل القانونية والدبلوماسية الممكنة.

ويبرز الحدث أيضا فاعلية التنسيق بين مؤسسات الدولة المختلفة، لا سيما وزارة الخارجية ووزارة السياحة والآثار، والسفارات المصرية بالخارج، في تحقيق إنجازات ملموسة على صعيد استرداد الكنوز المفقودة.

من جهة أخرى، يمثل هذا التابوت إضافة ثمينة لمقتنيات المتحف المصري الكبير، أحد أهم المشاريع الثقافية المعاصرة، ما يسهم في تنشيط السياحة الثقافية وتعزيز تجربة الزوار.

وإلى جانب ذلك، فإن مثل هذه الإنجازات تزرع الفخر في نفوس الأجيال الجديدة، وتغرس فيها روح الانتماء، وتذكرهم بأن مصر لا تنسى تاريخها، بل تسعى لاستعادته بكل قوة.

وعلى المستوى العلمي، يفتح التابوت المجال أمام الباحثين لإعادة دراسة هذه القطعة ضمن سياقها الزمني والديني والاجتماعي، بما يعزز من فهمنا لفنون الدفن والمعتقدات في العصر البطلمي، ويضيء جوانب جديدة من تأثيرات الحضارة الهيلينية على مصر القديمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى