وجاءت سكرة الموت بالحق.. لحظة لا رجوع بعدها

بقلم ناصر السلاموني
المتأمل في قول الله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، يدرك عظمة هذه اللحظة الحاسمة التي لا مهرب منها، فهي آتية لا ريب فيها، ولن ينجو منها مخلوق. إنها الحقيقة التي غفل عنها أكثر الناس، وانشغلوا بدنياهم، وكأنهم لن يفارقوها أبدًا.
يظن كثيرون أن الحياة التي نعيشها اليوم بكل ما فيها من مال ولهو وشهوات هي كل شيء، ويغفلون عن الآخرة، وكأن لا بعث بعد الفناء ولا حساب بعد القبور. ولكن الحقيقة الكبرى أن الدنيا ليست دار قرار، وإنما ممرّ قصير إلى دار الخلود. قال الله تعالى:
﴿وَمَا هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌۭ وَلَعِبٌۭ ۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلْءَاخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: 64).
تبدأ رحلة المغادرة حين يأتي يوم لا يعلمه أحد، ولا يدركه العبد، لكنه يشعر بشيء مختلف. المؤمن ينشرح صدره، وتغمره سكينة غريبة، بينما يحسّ العاصي بضيق شديد وقلق داخلي لا يهدأ. ولا يرى الإنسان الملائكة، لكن الشياطين تراقبهم عند نزولهم لقبض الروح. قال تعالى:
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ (البقرة: 281).
وقال سبحانه:
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا﴾ (الزمر: 42)،
و﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (النحل: 61).
تبدأ الروح بالخروج تدريجيًا من أسفل الجسد، صعودًا نحو الصدر، حتى تصل إلى التراقي، كما قال عز وجل:
﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ (القيامة: 26–30).
في هذه اللحظات، يشعر الإنسان بالضعف والتعب، وتبدأ أطرافه بالخدر، ولا يدرك أن روحه تغادر. يتجمّع من حوله أهله، وكلٌّ يحاول النجدة بطريقته، وهو في معركة داخلية صامتة. وإذا بلغت الروح الحلقوم، يُكشف الغطاء عن بصره، ويرى ما لا يراه غيره. قال تعالى:
﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (ق: 22).
وهنا يدخل الشيطان بكل ما أوتي من وسوسة، محاولًا إفساد آخر لحظة في حياة الإنسان، يشككه في عقيدته، وربه، ودينه، بل قد يتمثل له بصورة قريب ميت ليقول له: “اكفر، فإن الإسلام ليس دين الحق!”، كما وصفه الله:
﴿كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَـٰنِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىٓءٌۭ مِّنكَ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ (الحشر: 16).
ولذلك أوصانا الله أن نستعيذ من حضور الشياطين في هذه اللحظة:
﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ (المؤمنون: 97–98).
ثم يدخل ملك الموت عليه السلام، ويعلم العبد في لحظته الأخيرة هل هو من أهل الرحمة أم من أهل العذاب، فإن كان من الطيبين، خرجت روحه بلطف، وإن كان من الغافلين، خرجت بصعوبة وألم. قال تعالى:
﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ (النازعات: 1)،
وقال:
﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ﴾ (محمد: 27).
ثم تأتي “سكرة الموت”، وهي لحظة تتعطل فيها كل الحواس، وتغيب القدرة عن كل شيء. ﴿وَجَآءَتْ سَكْرَةُ ٱلْمَوْتِ بِٱلْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ (ق: 19).
ويُقفل باب الدنيا إلى الأبد، وتبدأ مرحلة البرزخ في انتظار يوم البعث.
وفي يوم القيامة، يُعرض الكتاب، ويقال للعبد: ﴿ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (الإسراء: 14).
فإن كان من المهتدين، نادى فرحًا: ﴿هَآؤُمُ ٱقْرَءُوا۟ كِتَٰبِيَهْ. إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَٰقٍ حِسَابِيَهْ﴾ (الحاقة: 19–20).
أما من ضيّع عمره، فيقول نادمًا: ﴿يَـٰلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ (الحاقة: 25–26).
ينادي: ﴿رَبِّ ٱرْجِعُونِ. لَعَلِّىٓ أَعْمَلُ صَـٰلِحًۭا فِيمَا تَرَكْتُ﴾،
لكن يأتيه الجواب القاطع:
﴿كَلَّآ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا﴾ (المؤمنون: 100).
ويصرخ قائلاً: ﴿يَـٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى﴾ (الفجر: 24).
وفي هذا اليوم العظيم، لا تنفع الأنساب، بل يفر الإنسان من أقرب الناس إليه، كما قال تعالى:
﴿يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَـٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ (عبس: 34–36).
وقد بيّن النبي ﷺ أن المفلس هو من يأتي يوم القيامة بأعمال كثيرة، لكنه ظلم الناس، فيُعطى هذا من حسناته، وذاك من حسناته، حتى تفنى، فيُطرح في النار. (رواه مسلم).
فيا من تقرأ، إن الروح ما تزال فيك، والباب لا يزال مفتوحًا، فاعمل لما هو آتٍ، وكن من أهل الجنة، الذين يُقال لهم:
﴿سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ﴾ (الزمر: 73).
وسُئل أحد الصالحين: لماذا نخاف الموت؟ فقال: “لأننا عمّرنا دنيانا، وخرّبنا آخرتنا”.
اللهم اجعل خير أيامنا يوم نلقاك، وثبّتنا عند الموت، واحشرنا مع النبيين والصديقين، واجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى