حضورك مرآة قلبك وعقلك… فكن مهيبًا

بقلم ناصر السلاموني
كثيراً ما تجلس مع شخص أو تقابل شخصاً لا تعرفه فتشعر بقوة تأثيره عليك وعلى من حولك؛ بل وانجذابا إليه؛ وتتساءل عن السر وراء ذلك فترى إن ذلك يرجع إلى قيمة لا تُمنَح، بل تُكتسب: إنها الهيبة. تلك الحالة التي تفرض الصمت حين تمرّ، وتحني العيون احترامًا دون أن تنطق. ليست هى مظهرًا، ولا مجرد لغة جسد، لكنها مزيج من الاتزان النفسي، والسكينة العقلية، والانضباط الداخلي، وصدق العلاقة مع الله.
إنها الاحترام العميق الممزوج بهدوء يربك، وصمت يوقّر، وسلوك يجعل من حضورك مشهدًا يُحسب له ألف حساب.
إنها شعور يتركه الإنسان في نفوس من حوله دون أن يطلب، ومنبعها الأدب والعقل، لا الخوف ولا الادعاء.
في اللغة، قال أهل العلم: “الهيبة خوف مع إجلال”، وهي قريبة من الوقار، لكنها أكثر قوة، وأشد حضورًا.
وليست هذه الخصلة طارئة على مفاهيم الإسلام، بل هي أصل من أصول السلوك النبوي. كان النبي صلى الله عليه وسلم مهابًا، لا يعلو صوته في الأسواق، ولا يكثر من اللغو، ومع ذلك إذا دخل مجلسًا ارتجّت له القلوب، وإذا تكلم صمت العالم. يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: “وما كنت أملأ عيني منه مهابة له، ولو قيل لي صفه، ما استطعت.” لقد كانت هيبته صلى الله عليه وسلم مزيجًا من الحلم، والصمت، والعدل، وصدق النية.
والهيبة لا تنفصل عن العقل، فالله جل وعلا ما خاطب عباده في كتابه إلا ودعاهم للتفكر، فقال: “أفلا تعقلون؟” و”أفلا يتفكرون؟”، و”إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون”. فالعقل هو منبع الثبات، ومصدر التقدير الصحيح للمواقف، ومن يملكه بحقّ لا يُستفَز، ولا يُستخف به، ولا يُستدرج إلى الفوضى.
ومن يعمل عقله، يدرك أن كثرة الكلام لا تصنع قيمة، وأن الصمت في موضعه يعلو على أبلغ الخطب. فالكلام في ميزان الشريعة مسؤولية، وليس زينة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.” ومن يدرك وزن الكلمة، لا يفرّط فيها، ولا ينفقها في غير موضعها.
وللهيبة أسرار، لا يملك مفاتيحها إلا الأقوياء، الذين تمرّنوا على الصمت حين يغضب الناس، وعلى الحلم حين يُستفزون، وعلى الترفع حين تُفتح أمامهم أبواب السقوط. من أعظم أسرارها ألّا تبادر بالردّ عند الاستفزاز، فإن الرجل القوي لا يُستفز بسهولة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.”
من أسرار الهيبة أن تتكلم قليلًا، لكن حين تتكلم، تُحدث الكلمة أثرًا. هيبة الكلمة لا تكون في عددها، بل في مكانها، وتوقيتها، وصدقها. ومن أعظم ما يصنع الهيبة أن تحتفظ بشيء من الغموض، لا تشرح نفسك كثيرًا، ولا تفتح صدرك لمن لا يفهم لغتك. سيدنا يوسف عليه السلام لخص نفسه بجملة واحدة: “إني حفيظ عليم”، فملَك القلوب، والقرارات.
الهيبة لا تعني أن تتصدر المجالس، بل أن تراقب بصمت، وتفهم قبل أن تحكم، وتزن قبل أن تتكلم. قال تعالى: “ولا تقفُ ما ليس لك به علم”، فما أكثر من خسروا احترامهم بكلمة قالوها في غير موضعها، وما أعز من يُحسب لصمته ألف كلمة. ومن الهيبة أن لا تُكثر من التبرير، فإن من يبرر كثيرًا يُشبه من يشعر بالذنب، بينما المؤمن الصادق يبرر لله، ويترك للناس حريتهم في التأويل.
من مفاتيح الهيبة أيضًا أن لا تُظهر كل أوراقك دفعة واحدة. فالقوة الحقيقية لا تُعرض، بل تُلمح. من يُفاجئ ينتصر، ومن يكشف نفسه كله، يُستَضعف. وقال يعقوب عليه السلام لأبنائه: “يا بني لا تدخلوا من باب واحد”، حكمة الأنبياء لا تُستقى من الحذر وحده، بل من عمق الفهم لطبيعة الناس.
ومن تمام الهيبة أن تحسن اختيار صداقاتك وعداواتك، فلا تصادق من لا تفهمه، ولا تُعادي من لا تعرف قدره. العلاقات السطحية تُهدر طاقتك، والعداوات العشوائية تُسقطك في وحل لا مخرج منه. أما من خذلك، فلا تعاتبه، فقط انسحب بهدوء. الهيبة تأنف من اللوم، وتترفع عن الجدال، وتلزم الصفح الجميل، كما أمر الله نبيه: “فاصفح الصفح الجميل”.
وأكثر الناس مهابة هم الذين لا ينتظرون من أحد شيئًا، فكلما قلّت توقعاتك من الناس، زادت كرامتك وهيبتك. قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: “إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله…”، فالمؤمن حين يستغني بالله عن الناس، يعلو فوق ابتزازهم ومزاجهم، وتصبح كلمته من مقام لا يُستدرج.
وأما الغضب، فهو نار تأكل الهيبة إن لم تُضبط. اجعل غضبك نادر الاستخدام، مثل سلاح ثمين لا يُخرج إلا لضرورة. كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتُهكت حرمات الله. فالغضب إن استُعمل بحقّ، صار مهابة، وإن فُجر عشوائيًا، صار تهورًا.
ولعل أصدق ملامح الهيبة أن ترسم حدودك بوضوح، حتى مع أقرب الناس. من لا يعرف حدك، سيأكلك مع الوقت. من لا تصدّه بلطف، سيستهين بحضورك. وقد قال النبي ﷺ: “لا يكن أحدكم إمعة”، فالشخص الذي لا يرسم لنفسه خطًّا لا يُتجاوز، يفقد احترام نفسه قبل احترام الناس له.
وبين الهيبة والكبرياء خيط رفيع، من لم يميّزه وقع في المهلكة. فالكبرياء في ميزان الإسلام مرفوض، وهو من صفات إبليس. أما الهيبة فمطلوبة، لأنها لا تنبع من تعالٍ على الناس، بل من احترام النفس وضبطها. قال النبي ﷺ: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”، فلما سُئل عن أناقة الثوب والنعل، قال: “إن الله جميل يحب الجمال، الكِبر: بطر الحق وغمط الناس”. فالفرق بين صاحب الهيبة وصاحب الكبر، أن الأول يُشعرك بالاحترام، والثاني يُشعرك بالمهانة.
وفي النهاية، الهيبة ليست للرجال وحدهم، بل للمرأة نصيبها الكريم منها، بما يناسب فطرتها. فالمرأة المهيبة ليست فظة، لكنها رزينة، ليست صاخبة، لكنها حاضرة، ليست مندفعة، لكنها واثقة. مريم عليها السلام كانت مهيبة، عفيفة، ساكنة وقورة، وخديجة رضي الله عنها كانت مهيبة حتى قبل الإسلام بحكمتها ورجاحة عقلها.
الهيبة لا تُصنع في ساعة، بل تُبنى مع الأيام، بالصمت حين يجب، وبالكلمة حين تُطلب، وبالاعتذار عند الخطأ، وبالانضباط في لحظات الضعف. إنها ليست حيلة، بل خلق. ليست قناعًا، بل نورًا داخليًا يستمد هيبته من الله، ومن الثقة به، ومن الاتزان النفسي العميق.
فكن هادئًا… حاضرًا… متزنًا… دَع حضورك يسبق كلامك، ودَع صمتك يُرعب من لا يجرؤ على استغفالك.
إن الناس لا تحترم من يجعلهم يرتاحون، بل من يُجبرهم على الحذر…
فإن لم تُفرض احترامك، تجاوزوك.