البطل المزيف والضحية الحقيقية: التضليل.. تيتانيك وطهران وتل أبيب

يعد فيلم Titanic الذى ظهر سنة 1997، من أحد أكثر الأفلام نجاحًا فى تاريخ السينما العالمية.. ليجسد واحدة من أشهر الكوارث البحرية. لقد غرقت «تايتانيك» سنة 1912، وغرق معها نحو 1500 إنسان، غالبيتهم من النساء والأطفال.
الذى بقى فى ذاكرتنا بعد مشاهدة الفيلم، «جاك» البطل الذى مات غرقًا بعد إنقاذه حبيبته «روز» وحدها فوق اللوح الطافى على سطح المحيط. استحوذ البطلان على مشاعر المشاهدين، بينما توارت كارثة غرق السفينة الحقيقية.. خلف ستار درامى بمؤثراته الصوتية والبصرية.
لا ينحصر التضليل فقط فى الأكاذيب، بل يكفى أن ندير الكاميرا فى اتجاه معين، وأن ننتقى زوايا التصوير، وأن نركز على قصة واحدة، ونركز على الزوايا العاطفية والإنسانية لكى نخلق واقعًا جديدًا، دون أن نطلق مجرد كذبة واحدة. لم ينكر فيلم «تايتانيك» الغرق الجماعى، لكنه جعلنا نتناساه. وجعلنا نتوحد مع شاب مشرد، ومدمن خمر، فقط لأنه ضحك ورقص وعشق ومات.
الآن فى الحروب، أصبحت الكاميرا هى أقوى من القنابل، هى التى تحدد من البطل ومن الشرير، وهى أيضًا التى تصنع الضحية وترسم ملامح تأثيرها. ونموذج ذلك الواضح ما حدث فى مشهد الصراع الإيرانى الإسرائيلى حتى لحظة وقف إطلاق النار الأخير.
السؤال: هل رأينا الحرب؟ أم رأينا فقط «وجهة النظر» التى أرادت لنا بعض القنوات أن نراها؟
كلا الطرفين يصور نفسه ضحية، وكلا الطرفين يصور الآخر مصدر الشر. ولكن الشاشات لم تعرض لنا الأطفال الذين سقطوا على هامش مباراة الحرب. لم تخبرنا عن الأبرياء فى كلا الجانبين، ولم تسلط الضوء على التكلفة الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية بعيدًا عن بيانات الحرب العسكرية.
دائمًا وتمامًا كما فى فيلم «تايتانيك»، هناك روز وجاك جديدان.. يتم تصنيعهما مع كل حرب أو صراع، ليُخفى خلفهما العشرات من الضحايا الحقيقيين.
لا يضللونا فقط بما يعرضونه، بل الأخطر فيما لا يعرضونه. فهم لا يكذبون ولكن ينتقوا ليتجاهلوا ما يريدون، ويركزوا على ما يريدونه أيضًا حتى لو كان حدثًا هامشيًا. نجدهم يركزون على مبنى.. أصابه صاروخ تافه، ويتجاهلون إبادة قرى كاملة. النتيجة تتجاوز خطورة الخداع، فالأهم كيفية إعادة تفكيرنا وتوجيه نظرنا على نحو ما يريدونه. وهذا يؤكد أن مثل تلك الممارسات التى قد تبدو لنا مهنية أو تقنية.. هى فى مضمونها.. وسيلة شديدة التأثير فى تحقيق أهداف سياسية.. من خلال ما تقوم به من صناعة رأى عام منحاز.. دون وعى لتدفع العالم بتبنى مواقف مرتكزة على مؤثرات عاطفية موجهة.
أؤمن أن التضليل الذى يمارس على مستوى العالم.. قد تجاوز مرحلة التحيز، ودخل فى مرحلة الهندسة النفسية والاجتماعية للمستهدفين. ولم يعد الأمر مجرد انتقاء مشاهد وصور وأخبار محددة، بل أصبح صناعة التضليل بالكامل للتأثير فى وعى المشاهدين، وإعادة تشكيل مفاهيم الخير والشر، المقاومة والإرهاب، العدالة والهمجية بالارتكاز على إخراج ماهر وقصة إنسانية شيقة وجذابة.
نقطة ومن أول الصبر..
ما لم نتحرر من سيطرة الشاشة الموجهة، سنظل نبكى على «جاك» وننسى آلاف وملايين الغارقين. وسنظل نؤمن بأن من يظهر فى الضوء هو البطل، ومن يتم «شيطنته»على الشاشة لا يستحق الحزن، بل يستحق الموت شنقًا مع سبق الإصرار والترصد.
نحن لا نرى الحقيقة، بل نرى ما يراد لنا أن نراه بكل دقة.