رينال عُويضة تكتب : المقعد 11A… حيث جلست الحياة

لم يكن يعلم أن النافذة الصغيرة إلى جواره ستكون نافذته إلى الحياة. المقعد 11A، رقم عادي في سجل الطائرات، لكنه في يوم من أيام القدر تحوّل إلى رقم خالد، نقش نفسه في ذاكرة المستحيل. حين سقطت الطائرة وتحطّم جسدها على الأرض، سقط كل شيء: الأماني، الحقائب، الأصوات، والعناق الأخير الذي لم يُكتمل. وبين لهب الحديد وتنهيدة النهاية، خرج رجلٌ واحد… خرج من تحت الرماد كأنه الشاهد الأخير على ما لم يُكتب له النجاة.

ما الذي يجعل إنسانًا واحدًا ينجو من كارثة يبتلع فيها الموت الجميع؟ هل كان الحظ وحده؟ أم أن للحياة يدًا خفية تنتشل بعضهم دون أن تفسّر؟ مشى هذا الرجل بين الحطام، متعثرًا بما تبقى من أسماءٍ لم تُنطق بعد، يسأل نفسه بصوت خافت: لماذا أنا؟ كيف مرّت النيران من حولي دون أن تلمسني؟ ولماذا صمتت السماء ليمرني القدر وحدي؟

كل من كانوا على متن الطائرة حملوا حلمًا ما… أمّ كانت تشتاق لأولادها، مسافر يكتب بداية عمر جديد، طفلة لم تشبع من ضحكتها بعد. رحلوا جميعًا، بينما بقي هو، يحمل في صدره ذنبًا ناعمًا يشبه الامتنان الموجوع. فلم يكن نجاته نصرًا، بل عبءًا جديدًا اسمه الحياة بعد الجميع.

ربما نجا جسده، لكن شيئًا ما انكسر فيه إلى الأبد. الناجون الوحيدون لا يهنأون كثيرًا بنجاتهم، بل يعيشون العمر كله يحاولون فهم معناها. يتنفسون بحذر، يفرحون بنصف قلب، ويضحكون وداخلهم مساحة صامتة لا يراها أحد. النجاة ليست خلاصًا دائمًا، بل أحيانًا تكون بداية حوار طويل مع الذاكرة، مع القدر، ومع الله.

في تلك اللحظة التي جلس فيها على المقعد 11A، لم يكن يعلم أنه يوقّع على شهادة حياة جديدة، حياة لن يكون فيها كما كان من قبل. فالحياة بعد الكارثة ليست كما قبلها. والذين خرجوا من الجحيم لا يعودون إليه كما هم. يخرجون محمّلين بالحكاية، وبالأسئلة، وبحكمة لم يطلبوها.

المقعد 11A لم يكن مجرد رقم، كان شاهدًا على أن الحياة تختار، أحيانًا، بلا منطق… وأن بعض الأرواح تُترك لتروي، لا لتُروى. لتشهد، لا لتنجو فقط. ولتبدأ من جديد، لا لأن النهاية تأخرت، بل لأن البداية ما زالت تنتظرها.

#المقعد_11A
#رينال_عويضة
#الناجي_الوحيد
#رحلةAI171
#تحطم_أحمد_أباد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى