مصر و إبراهيم ومناسك الحج

بقلم: ناصر السلاموني
في قلب صحراء العرب، وتحت شمس الإيمان، تقف شعائر الحج شاهدًا خالدًا على قصة بدأت من أرض مصر. لم تكن قصة نبي فحسب، بل ملحمة توحيدية خالدة، بطلها إبراهيم الخليل، وزوجه المصرية الطاهرة هاجر، التي صارت أمًّا لأمة، وأساسًا لمناسك، وركنًا في دعوة السماء.
دخل إبراهيم عليه السلام أرض مصر قادمًا من العراق، فكان لقاءً تاريخيًّا مع حاكم مصر آنذاك، الذي رأى في إبراهيم رجلاً صالحًا مباركًا، فحماه الله من كيد الملك، وأكرمه بهدايا عظيمة، وكان من أعظمها: هاجر، الجارية المصرية ذات الأصل الشريف، التي آمنت بالله وتزوجها نبي الله. وهكذا، من مصر بدأت أول خيوط قصة الحج، من أرضٍ احتضنت أولى خطوات التوحيد في وادي النيل، وأهدت إلى نبي الله رفيقةً صالحة، ستصير أمًّا لنبي آخر هو إسماعيل
وخرج إبراهيم من مصر بالخيول والملابس القطنية والذهب كهدية من الملك، كما ذكر ابن كثير وغيره. وصل بالخيول إلى مكة مع هاجر وإسماعيل، ومن مكة انتشرت في الجزيرة. فكما انتقل التوحيد من مصر إلى الحجاز، انتقلت معه الخيول، فصارت أصل “الخيول العربية.
أُمر الله إبراهيم أن يغادر مصر إلى الشام، ثم إلى أرض قاحلة لا زرع فيها ولا ماء… إلى مكة، وهناك، في وادٍ جاف، ترك إبراهيم زوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل. فتعجبت هاجر وسألته: “آلله أمرك بهذا؟” قال: نعم. فقالت: “إذن لا يُضيعنا الله.” ثم ولى إبراهيم وجهه إلى السماء ودعا:
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾
(إبراهيم: 37) فاستجاب الله دعاءه، وجعل مكة موئلاً للقلوب، وموردًا للثمرات، كما قال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا﴾
(القصص: 57)
نفد الزاد والماء، واشتد بكاء الطفل إسماعيل، فركضت أمه سبع مرات بين جبلي الصفا والمروة، بحثا عن قطرة ماء. ف لما رجعت إلى وليدها تفجرت زمزم تحت قدميه، في مشهد أبدي خلدته السماء: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾
(البقرة: 158) من سعي أم مصرية مؤمنة، وُلِدت شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، ليبقى سعيها ملهِمًا لملايين الحجيج حتى يوم القيامة.
حين ظهر ماء زمزم، جاءت قبيلة جرهم، واستأذنت هاجر أن تسكن بقرب الماء، فأذنت لهم. فنشأ إسماعيل بينهم، وتعلم العربية والفروسية، حتى أصبح أصل العرب العدنانيين. وقد ورد في الأثر: “إن أول من نطق بالعربية المبينة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.” رواه ابن عساكر بإسناد صحيح.
عاد إبراهيم بعد سنوات، فرأى في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل، ومضى لتنفيذ الأمر: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات: 102)
فلما استسلما، فدى الله إسماعيل بذبح عظيم:﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (الصافات: 107)وهكذا، وُلدت شعيرة الأضحية، لتخلّد الطاعة والثقة.
أُمر إبراهيم ببناء الكعبة، فشارك إسماعيل أباه، ورفعا القواعد سويًا: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾
(البقرة: 127) وكان إبراهيم يقف على حجرٍ ثابت، لا تزال آثاره قائمة، يُعرف بـ”مقام إبراهيم”:﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾(البقرة: 125)
حِجر إسماعيل: هو جزء من الكعبة الأصلية، يُقال إن هاجر وابنها دُفنا فيه، لذا كانت الصلاة فيه كالصلاة داخل الكعبة، وهو موضع يُستجاب فيه الدعاء.
نرى من خلال ما سبق أن شعائر الحج ما هي إلا تخليد لعائلة إيمانية؛ الطواف بالكعبة تخليد لبنائهما، والسعي بين الصفا والمروة وفاء لسعيها، وزمزم ماء الرحمة لإسماعيل وهاجر، ومقام إبراهيم موضع بناء الكعبة، ورمي الجمرات ذكرى مقاومته للشيطان، والأضحية تذكير بفداء الله، وحِجر إسماعيل مقام البركة والسكينة.
لقد خلد الله ذكر إبراهيم وآله في أعظم عبادة، فقال رسول الله ﷺ: “اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم…”(حديث متفق عليه)
من مصر بدأت الحكاية، وهاجر المصرية كانت أول من ارتبط اسمها بالحج. بل امتد دور مصر ليشمل كسوة الكعبة المشرفة لقرون، ورعاية الحجاج عبر قوافل سنوية منظمة، وتشييد منشآت الحرم بدعم السلاطين والولاة المصريين.
لم تكن الخيول العربية نبتًا صحراويًّا فحسب، بل أصلها يعود لمصر، حيث وُثّقت في النقوش الفرعونية قبل دخول العرب الإسلام. وخرج بها إبراهيم من مصر كهدية من الملك، كما ذكر ابن كثير وغيره. وصلت لمكة مع هاجر وإبراهيم، ومن هناك انتشرت في الجزيرة. فكما انتقل التوحيد من مصر إلى الحجاز، انتقلت معه الخيول، فصارت أصل “الخيول العربية”.
الحج ليس مجرد طقوس، بل قصة أسرة مؤمنة، بدأت من نهر النيل، وامتدت إلى جبال مكة. من مصر خرج إبراهيم عليه السلام يحمل إيمانًا، وزادًا من الهدايا، وامرأة طاهرة هي أم إسماعيل، وركبًا من الخيول. ومن مكة ارتفعت دعوته، وتجلّى أثره، ونُسجت مناسك الحج حول ذكراهم.
فحق لمصر أن تفخر: من رحمها خرجت أول شعيرة، وعلى أرضها كُرّم أول بيت، ومن نسائها بدأت رحلة التوحيد.