رينال عويضة تكتب: الإسكندرية… مدينةٌ على حافة الحنين والغرق

 

منذ ليلتين، هزّت العواصفُ أبواب الإسكندرية كأنها تستدعي التاريخ من أعماق البحر… برقٌ شقّ السماء فوق كورنيش الشوق، ورعدٌ دوّى كأن البحر غاضبٌ من صمت البشر، وكلما تصاعدت الأمواجُ، تصاعد معها خوفي… خوفي على الإسكندرية، على الذكريات، على مقهى جلسنا فيه ذات مساء، على ضحكةٍ سقطت منّا وسقطت معها النجاة.

في عمق هذا القلق، يعود طيف هيرقليون، المدينة المصرية القديمة، التي كانت يوماً بوابة مصر إلى البحر المتوسط… غارقة الآن في صمتٍ أزرقٍ أبديّ، مدفونة تحت الطمي، تحت التاريخ، تحت النسيان. عُثر على أطلالها في بداية الألفية، على بعد 6.5 كيلومتر من سواحل أبو قير. كانت تزدهر بالتجارة والمعابد، ثم غمرتها المياه شيئاً فشيئاً، بسبب الزلازل وانخفاض الأرض وارتفاع منسوب البحر. لم يكن الغرق لحظةً واحدة، بل كان همساً بطيئاً… تماماً كما أخاف أن يكون مصير الإسكندرية.

تقارير علمية دولية تحذر منذ سنوات من أن المدينة العريقة تواجه خطر الغرق بسبب تغيّر المناخ، وارتفاع منسوب مياه البحر. تقرير صادر عن البنك الدولي حذّر أن أكثر من ثلث الأراضي المنخفضة بالإسكندرية مهدد بالغرق بحلول عام 2050، إذا استمر تآكل السواحل بهذا الشكل. ووفقًا لهيئة حماية الشواطئ، هناك مناطق بالفعل تتعرض للانحسار، كمنطقة الشاطبي والمندرة والأنفوشي.

وكل هذا، لا يهمني فقط كأكاديمية أو إعلامية، بل كطفلةٍ كانت تظن أن رائحة البحر لا تموت. كواحدةٍ سارت حافيةً على رمال “الماريا”، وشربت من هواء تلك المدينة كأنها تشرب من ذاكرة أمٍّ حنون. الإسكندرية ليست مجرد مدينة، إنها “مخزن الحنين”، “خزان الذكريات”، “بوابة القصائد”.

أنا خائفة على مكتبة الإسكندرية، على الترام الأصفر، على كوب شاي بالنعناع في “إيزيس”، على تلك الرسائل التي كتبتُها ولم أرسلها، على حروف اسمك المنقوشة على سور القلعة… أنا خائفة على البحر حين يُترك وحيداً في مواجهة التآكل، وخائفة علينا حين نترك المدينة تموت كما ماتت هيرقليون.

هل سنبقى نكتب الشعر عن الإسكندرية حتى تغرق، كما كتب الإغريق عن أتلانتس؟
أم سنفي لها بما تستحق، قبل أن تُسدل الأمواج ستارها الأخير؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى