المرأة المصرية عظمة في قلب التاريخ

بقلم: ناصر السلاموني
لم تعرف الإنسانية في بدايات حضارتها نموذجًا أسمى للمرأة من ذاك الذي عرفته في مصر القديمة. فقد كانت المرأة المصرية رمزًا للمجد، ومصدرًا للعطاء، ومكوِّنًا أصيلًا في نسيج الحضارة التي ألهمت العالم بسبقها وعدلها.
لقد كانت المؤمنة الموحدة و الشريكة في الحكم، والمربية في البيت، والمعلمة في المعبد، والكاهنة في قدس الأقداس، والطبيبة في القصر، والكاتبة في الديوان، والقاضية في بلاط العدالة. كانت “نبت بر” – سيدة البيت – لا بمعنى التبعية، بل القيادة والرعاية والقدرة والإبداع.
ونتعرف على رموز للمرأة المقدسة فقد خلّد المصريون صفات المرأة في صور إلهات، فجعلوها عنوانًا لكل فضيلة:
إيزيس (آست): رمز الوفاء والأمومة المقدسة.
ماعت: تجسيد للحق والعدل والميزان.
حتحور: عنوان الحنان والجمال والخصب.
سخمت: رمز القوة والهيبة والحماية.
لم تكن هذه الصور المأخوذة خيالاً أسطوريًا، بل تجسيدًا واقعيًا لمكانة المرأة في المجتمع المصري، فهي المثل الأعلى في السلوك، والركن الأخلاقي في الثقافة المصرية حتى الآن.
ولنأت إلى نموذج واقعى وهو السيدتان الحاميتان: واجيت ونخبت لنرى أنهما من أبرز الرموز النسائية المقدسة، فظهرت “واجيت” (حية الكوبرا) حامية مصر السفلى،و”نخبت” (النسر الأبيض) حامية مصر العليا، كرمزين لاتحاد الأرضين، فارتبطتا مباشرة بالسلطة الملكية في لقب “النبتي”، في إشارة إلى أن شرعية الحكم تستمد قوتها من المرأة.
والآن نرى دور المرأة في المجتمع والقانون
لم تكن المرأة المصرية في الظلّ، بل كانت صانعة القرار، وحاملة الحكمة، وممثلة للعدل:
كاهنة في المعبد، تؤدي الطقوس الدينية وتفسر إرادة الآلهة.
طبيبة تجري الجراحات وتعالج بالأعشاب والتعازيم، مثل الطبيبة “بسشت”.
كاتبة تتعامل مع النصوص المقدسة والحسابات الإدارية، وقد عُثر على أسماء لنساء عملن في دواوين الدولة.
قاضية تفصل في النزاعات، وتحكم بالعدل وفق قوانين ماعت، وكان يُوثق توقيعها على الوثائق الرسمية.
وكان القانون المصري يكفل للمرأة:
الميراث بالتساوي مع الرجل.
حرية التملك والتصرف في المال.
الحق في الزواج والطلاق باختيارها.
الحماية من الإهانة أو التعدي.
ونرى ملكات وأميرات خلدهن التاريخ منهن:
الملكة أحمس نفرتاري: الأم المؤسسة للدولة الحديثة، وبنت المجد مع ابنها أحمس الأول في طرد الهكسوس.
الملكة تيي: زوجة أمنحتب الثالث، كانت ذات نفوذ سياسي وديني واسع، وشاركت في القرارات الكبرى.
الملكة حتشبسوت: أول فرعونة تحكم كملك، بنت المعابد وأعادت طرق التجارة وخلّدت اسمها في الدير البحري.
الملكة نفرتيتي: قادت إلى جانب أخناتون الثورة الدينية الكبرى، وكانت ذات حضور إداري وفكري لافت.
ميريت آتون: ابنة نفرتيتي، حملت ألقابًا ملكية، وكانت مؤهلة لتولي الحكم، ما يدل على استمرارية ثقة الدولة في قوة النساء.
ونرى أمهات الملوك صانعات النصر مثل:
الملكة إياح حتب: أم الملكين كامس وأحمس، شاركت في القتال، وقادت الجيش، وكُرّمت بأوسمة الشجاعة.
المرأة المصرية في النصوص الجنائزية كانت تُسمّى “إرت إن” – أي “صُنعت منه” – للدلالة على أن الحياة تبدأ منها، وأنها ليست مجرد وعاء، بل أصل الخلق والنماء.
وتكريماً للمرأة وخاصة المصرية المؤمنة ذكرها القرآن الكريم في آيات نتعبد بها إلى قيام الساعة.
هاجر المصرية، تلك المرأة المؤمنة الصابرة، خلد الله اسمها في شعائر الإسلام وجعل من صنيعها ركنًا من أركان الحج؛ فهي حين تُركت مع طفلها إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، واجهت الموقف بإيمان ويقين، وسعت بين الصفا والمروة تبحث عن الماء، فكان سعيها سببًا في تفجر بئر زمزم واستجابة الله لها، فأصبحت هذه اللحظة التاريخية شعيرة يتعبد بها المسلمون إلى يوم القيامة، قال تعالى: “إن الصفا والمروة من شعائر الله”، وجعل الله من هذا المكان المبارك موطنًا لرفع قواعد الكعبة بيد إبراهيم وإسماعيل، ليكتمل مشهد الاحتفاء الإلهي بالأسرة المؤمنة؛ فكل ركن من أركان الحج اليوم يحمل في طياته ذكرى لإيمان إبراهيم، ورضا إسماعيل، وصبر هاجر المصرية، فكان الحج رسالة خالدة توثق تكريم السماء للمرأة المصرية وجعلها شريكة في تأسيس أقدس بقاع الأرض.
أم موسى أوحي الله إليها “وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفتِ عليه فألقيه في اليمِّ ولا تخافي ولا تحزني”(القصص: 7)
فكانت أمًّا بوحي، وثقة، وطمأنينة، رمزًا للإيمان في لحظة الرعب، فأكرمها الله بأن نشأ ابنها في قصر الطغيان لينقض الظلم برسالة السماء.
ماشطة ابنة فرعون: شهيدة العقيدة ؛في بلاط البطش، سطعت ماشطة ابنة فرعون، حين قالت “ربي الله”، فعُذبت وقُذفت في الزيت هي وأبناؤها، وصوت طفلتها يثبتها:
“اصبري يا أماه فإنك على الحق” – كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.هذه المصرية البسيطة ارتقت إلى مصاف الخالدين بإيمانها الذي دوّنه الرسول، ورفعها إلى مرتبة الشهيدة النموذج.
آسية امرأة فرعون: سيدة نساء العالمين
بلغت آسيا ذروة الإيمان في قصر الطاغية:
“وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربِّ ابنِ لي عندك بيتًا في الجنة ونجني من فرعون وعمله”
(التحريم: 11فخلدها الله مثلًا للمؤمنين، وجعلها من الأربع الكاملات، كما قال النبي:”كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد”(رواه البخاري ومسلم)
من هنا نعلم أنه لم تكن المرأة المصرية القديمة تابعًا ولا ظلًا، بل كانت رأسًا في الحضارة، وصوتًا مؤمناً، ويدًا في الميدان، وضميرًا في العدالة.لذا رفعتها حضارتها فكرّمها ربها، وجعلها نموذجًا خالدًا يتحدى الزمان، ويؤكد أن المرأة إذا مُكّنت، أبدعت، وإذا أُكرمت، خلّدت، وإذا آمنت، ارتقت إلى مقام الوحي والشهادة والخلود.