د. أسامة السعيد يكتب من بغداد: القمة العربية.. وطريق النجاة

عندما وصلت إلى العاصمة العراقية بغداد فى ساعة مبكرة من صبيحة أمس الأول، كانت المدينة تستسلم لحالة من السبات العميق، لكن الأمر فى ظنى يتجاوز أن المدينة كانت فى تلك اللحظات تستقبل أنفاس الصباح الأولى، فقد بدت «عاصمة الرشيد» فى ناظرى مدينة مثقلة بالذكريات، ومحملة بهموم شتى، جعلتها أقرب إلى امرأة عركتها التجارب ومنحتها جراح المعارك التى تثخن جسدها وروحها حكمة من نوع خاصة، جعلتها تميل إلى السكون، متى استطاعت إليه سبيلاً.
أخذت أتأمل الشوارع شبه الخاوية، كانت إجراءات تأمين القمة العربية بادية فى الشوارع من المطار وباتجاه المنطقة الخضراء التى تستضيف أعمال القمة، والتى كانت فى زمن سابق المنطقة الآمنة التى يمكن أن تستضيف مقار الحكومة ومبانى السفارات الأجنبية، لكن نطاق الأمن اليوم فى بغداد أوسع كثيرًا من ذى قبل، ومظاهر حضور أفراد الأمن بلباسهم الرسمى وسياراتهم المموهة ملحوظة وبخاصة فى الشوارع الرئيسية التى يتحرك فيها المشاركون بالقمة طوال ساعات اليوم.
أردت لو أستنطق الشوارع لتروى لى بعضًا من ذكرياتها التى أشك أنها استطاعت نسيانها، حتى وإن حاولت تناسيها، فقبل 22 عامًا كانت تلك الشوارع مسرحًا لغزو أمريكى غير مشروع غيّر مسارات المنطقة، وأطلق العنان لتحولات لا تزال تعصف بأرجاء الشرق الأوسط، وتدفع شعوب المنطقة بنسب متفاوتة، وعلى أقساط، ثمن ذلك الغزو وتبعاته الكارثية، وأورثت تلك الشعوب أنينا لا تزال أصداؤه مسموعة.
أتأمل مشهد الشوارع والشعب العراقى الطيب المشهور بثقافته وعراقة أصله، فأجد ملامح مشتركة أراها تقريبًا فى كل ما زرته من الشوارع العربية، وجوهًا بسيطة وقلوبًا قلقة، عقولاً مشغولة بسؤال المستقبل وأجسادًا أنهكتها التجارب القاسية ومحاولات تدبير احتياجات الحاضر.
يُمنى العرب دائمًا أنفسهم بأن العاصفة ستمر لتعقبها أيام صفو وهدوء، لكن خبرة العقود الأخيرة تؤكد أن العواصف وحدها هى ما يهب على المنطقة، سواء بفعل عوامل من داخلها، أو بتأثير فواعل من خارجها وهم كُثر، وأن فترات الهدوء المبتغاة ربما تكون تمهيدًا لعاصفة أشد!!
■ ■ ■
القمة العربية الحالية التى تستضيفها العاصمة العراقية فى الواقع قمتان، قمة عربية دورية تحمل الرقم 34 فى سلسلة القمم العربية العادية، وقمة عربية تنموية تحمل الرقم 5، والتى تعود للانعقاد بعد 6 سنوات من آخر دورة لها استضافتها العاصمة اللبنانية بيروت.
القمة العربية الراهنة هى الرابعة فى تاريخ القمم التى تستضيفها بغداد بعد قمم 1978 و1990 و2012، وكأن العاصمة التى كانت حاضنة لأطول دولة عربية وإسلامية عرفها التاريخ وهى الدولة العباسية، كانت دائمًا على موعد مع التاريخ، وهو ما يبدو من تواريخ القمم التى استضافتها، فغالبًا ما كانت تجرى «القمم البغدادية» فى أجواء عاصفة أو قبيل أو بعد عاصفة تجتاح أرض العرب.
أول قمة استضافتها العاصمة العراقية جاءت بعد عام من مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات من أجل السلام، وهى المبادرة التى قوبلت حينها بعاصفة من الغضب العارم، ومحاولة عزل مصر عن محيطها العربى، لكن الأيام أثبتت أن الطريق نحو السلام كان صائبًا مهما بدا وعرًا آنذاك.
القمة الثانية كانت فى 28 مايو 1990 أى قبل 66 يومًا بالتمام والكمال من الغزو العراقى لدولة الكويت، وهو الحدث الذى تسبب فى شرخ لم يرمم إلى اليوم فى جدار الأمن القومى العربى، والغريب أن تلك القمة العربية كان شعارها مناقشة «التحديات التى تواجه الأمن القومى العربى»!!
فيما جاءت ثالثة القمم على أرض العاصمة العراقية فى 2012، فى وقت كان زلزال ما يُسمى بـ «الربيع العربى» لا يزال يجتاح المنطقة، وتوابعه تتردد أصداؤها فى عواصم عربية عدة، والجميع يقف حائرًا عند حافة المجهول، سواء العواصم التى ضربها زلزال الاضطراب، أو تلك التى تترقب أن ينفجر البركان فى شوارعها فى أية لحظة، فلا حد للجنون ولا أحد بمأمن من تداعياته فى ذلك الوقت!
واليوم تعود قافلة القمة العربية إلى المدينة التى دمرتها جحافل التتار ذات يوم، وهدموا على أرضها واحدة من أعظم منجزات الحضارة الإنسانية. تعود القمة العربية إلى بغداد، بينما جحافل بربرية أخرى تجوس فى المنطقة، لا تقل خطرًا ولا همجية عن جحافل التتار التى أسقطت عاصمة الخلافة العباسية فى «1258م»، ولا تلك التى غزتها فى «2003م»، لكن جحافل برابرة العصر من قوات جيش الاحتلال الإسرائيلى تضع عواصم ومدنًا عربية عدة على لائحة أهدافها، مستندة إلى دعم أمريكى غير مسبوق، وغطاء عسكرى ودبلوماسى واقتصادى يوفر لها كل ما حلموا به للعربدة والتلاعب بمستقبل المنطقة.
■ ■ ■
محاولة قراءة كف المنطقة تكشف عن حالة غير مسبوقة من التشابك والتعقيد، وهو ما يجعل الحديث عن حلول حاسمة وخيارات مفتوحة أمرًا عسير المنال، فضلاً عن كونه ضربًا من عدم المنطقية، فالجسد العربى أثخنته جراح لا تمهلها الأزمات كى تندمل، فما يجرى فى ليبيا لا يكاد يهدأ حتى يشتعل، وما يدور فى السودان يضع بقاء الدولة ووحدتها فى مرمى الخطر، واليمن قطع شوطًا هائلاً نحو المجهول ولا تبدو العودة قريبة، بينما دولة مثل الصومال وغيرها من دول القرن الإفريقى هى بند دائم على لائحة المتربصين بالمنطقة، والكثير من شعوب المنطقة يئن تحت وطأة أزمات اقتصادية تتسبب فيها صراعات دولية أو إقليمية أو يدفع فاتورة اضطرابات داخلية.
ويبقى الجرح النازف منذ عقود فى الأراضى الفلسطينية عنوانًا صارخًا بحجم الأزمة العربية وفجاجة وتبلد الضمير الإنسانى، فما يجرى فى غزة اليوم ليس سوى حلقة جديدة من مأساة مستمرة منذ ثمانية عقود، كل فصل أكثر هزلية ومأساوية مما سبقه، وكأن المنطقة مكتوب عليها أن تبقى مسرحًا يقدم عليها العالم أسوأ عروضه، ويُطلب من شعوبها أن تتفرج فى صمت، بل وأن تدفع أحيانًا مقابلاً سخيًا لتلك العروض الرديئة!!
إن خطورة ما يجرى اليوم فى غزة يتجاوز كونه واحدًا من فصول المأساة، فمن الواضح أن «برابرة العصر» يتعجلون كتابة الفصل الأخير، ويسعون إلى إنهاء جريمتهم العلنية بأخطر عروضهم الدموية على الإطلاق، وذلك عبر تصفية القضية الفلسطينية، ومحو وجود شعبها عبر قتله أو اقتلاعه من أرضه التاريخية، وهو أمر يظن القتلة أنه سيمر مثلما مرت جرائمهم القديمة، لكنهم لا يدركون أن ثمنًا فادحًا لإراقة دماء الأبرياء لا بد أن يُدفع يومًا ما، فالجرائم ضد الشعوب والإنسانية لا تسقط بالتقادم.
يُضاف إلى ذلك التحولات الكبرى الجارية فى العالم من حولنا، والتى تشى بأن نهجًا إمبراطوريًا يتعزز فى رؤية الإدارة الأمريكية للعالم، وأن تلك الإدارة لا تنظر للعالم كله إلا من منظور مصالحها الضيقة، وبغض النظر عن تأثير سياساتها وتداعيات قراراتها على مستقبل المنطقة والشعوب والأرض، فضلاً عن هيمنة تيارات وقوى فاعلة فى قلب صناعة القرار السياسى الأمريكى تتبنى الرواية الإسرائيلية على طول الخط، وتمنح مجرمى الحرب فى تل أبيب الفرصة تلو الأخرى، ليس فقط للإفلات من العقاب، ولكن لتوسيع نطاق جرائمهم، ومد نطاقات نشر الفوضى الإقليمية فى جبهات متعددة على اتساع خريطة الشرق الأوسط.
كل هذه التعقيدات والتشابكات إذا ما وضعناها إلى جوار بعضها كقطع «البازل» ستتكشف أمامنا حقيقة الخطر المحدق بالمنطقة، ليس فقط من حولها بل ينفجر – وهذا هو الأفدح – من داخلها، الأمر الذى يجعلنا على يقين بأن القمة العربية الراهنة فى بغداد -والتى أراها امتدادًا زمانيًا وموضوعيًا للقمة العربية الطارئة التى استضافتها القاهرة فى 4 مارس الماضى- قد تكون واحدة من القمم الفارقة بمعنى الكلمة فى مسار ومصير العمل العربى المشترك، فنحن أمام لحظة لا تصلح معها الحلول الفردية، ولا تجدى فى التعاطى مع مخاطرها نظرات المصالح الضيقة، بل ينبغى على الجميع أن يرتقى إلى مستوى التحدى، فالنار ليست بعيدة عن ثوب أحد، ومن يظن أنه بمأمن من الخطر قد يكتشف، حين لا ينفع الندم، أنه كان دائمًا على رأس لائحة المهددين بالاحتراق!
■ ■ ■
كتبتُ وسأظل أكتب عن أهمية تبنى مشروع عربى متكامل، استراتيجيًا وسياسيًا واقتصاديًا، فحجم التحديات الراهنة التى نواجهها كمنطقة أكبر من أية حلول فردية، وطبيعة الاختراقات والسيناريوهات التى يجرى تنفيذها ورسمها للمنطقة أخطر من أى وقت مضى، وهو ما يستدعى موقفًا عربيًا شاملاً، يستند إلى إدراك عميق بطبيعة الخطر وجدوى الحل الجماعى، ويعلو على تباينات المصالح والآراء، ويتجاوز العثرات وأخطاء الماضى.
قد يرى البعض فى هذا الطرح حلمًا رومانسيًا تجاوزه الزمن، ويفارقه الواقع، ولا أقول إن الأمر سهل أو يمكن أن يتم إنجازه بين عشية وضحاها، ولكن قراءة التاريخ – تاريخنا وتاريخ العالم تشير إلى أن إدراك الخطر يمكن أن يكون جسرًا لتحقيق ما ظنه البعض فى لحظة ما مستحيلاً، وأن إرادة النجاة إذا ما توافرت تكون قوة دفع هائلة لإنجاز ما اعتبره البعض ضربًا من المعجزات.
أليس انتصار أكتوبر 1973 دليلاً دامغًا على إمكانية وقدرة العمل العربى المشترك لإنجاز هدف جماعى، وقبلها كانت تجربة 1967 سببًا فى إذابة كثير من الخلافات العربية العربية، وبلورة موقف عربى موحد جسدته قمة الخرطوم العربية آنذاك والتى عُرفت بقمة «اللاءات الثلاث»: لا صلح.. لا اعتراف.. لا تفاوض مع الكيان الصهيونى.
صحيح أن مياهًا كثيرة جرت فى نهر الأحداث بالمنطقة، وأحالت تلك «اللاءات» إلى تاريخ، لكن تلك «اللاءات» كانت عنوانًا لقدرة القرار العربى على صياغة موقف موحد وتضامن يليق بحجم التحدى، وأظن أن حجم وطبيعة الخطر المحدق بالمنطقة اليوم يتطلبان العديد من «اللاءات» الجديدة التى تناسب طبيعة التحديات الراهنة.
ما أحوجنا لـ «لا» فى مواجهة التدخلات الخارجية فى واقع ومستقبل المنطقة، و«لا» فى وجه مخططات تهجير الشعب الفلسطينى وتصفية قضيته، و«لا» ضد مساعى تفتيت الصف العربى وافتعال صراعات بينية لا تخدم سوى خصومنا وأعدائنا، و«لا» فى وجه التصنيف الطائفى والمذهبى والدينى للدول والمجتمعات العربية، بما يفكك وحدة وتماسك تلك المجتمعات وقدرتها على مواجهة تحدياتها، و«لا» خامسة فى وجه الميليشيات والجماعات التى تتآمر على الدولة الوطنية وتستخدم كـ «حصان طروادة» لغزو المجتمعات وإشعال الحرائق الداخلية.
«لاءات» كثيرة علينا أن نرفعها اليوم فى وجه قوى تزعم أنها «تقود» التغيير فى منطقة الشرق الأوسط، والحقيقة أنها «تقوض» السلم والاستقرار الهش فى منطقة ابتلاها القدر بأن تكون مسرحًا لصراعات الأمم، وميدانًا لاختبار النفوذ الإقليمى والدولى، ورقعة شطرنج، تتبادل أيدى الفاعلين الكبار فى صناعة مصير العالم تحريك القطع فوق خرائطها.
والأهم أن نجمع قدرتنا لتحويل تلك «اللاءات» من قول إلى عمل، ومن موقف إلى قرار، ومن مشاعر إلى سلوك، فاللحظة الراهنة تتطلب الكثير من العمل والتحرك الجاد، لا البيانات الخطابية.
■ ■ ■
ومجددًا، لا أقول إن الأمر يسير أو أن الطريق إلى ذلك مفروش بالورود، بل أعترف بأن السبيل إلى ذلك الهدف سيكون محاطًا بأسلاك شائكة وألغام قابلة للتفجير عن بعد، لكن الرهان على قدرة بعض قادة المنطقة على تقديم نهج قادر على إعادة بناء المشهد الإقليمى يمكن أن يكون بداية نحو المسار الصحيح الذى ينبغى علينا أن نسلكه.
وأقول بيقين كامل وإيمان يستند إلى حقائق التاريخ وشواهد الواقع، أن لدى القيادة السياسية المصرية القدرة على أن تكون المرتكز الذى ينطلق من خلاله «طريق النجاة»، وقد أثبتت الأحداث على مدى السنوات الأخيرة أن لدى القيادة المصرية ممثلة فى الرئيس عبدالفتاح السيسى، الرؤية العميقة لواقع الأمور فى المنطقة، والقدرة على استشراف المستقبل ببصيرة ثاقبة، وهو ما جنب مصر والمنطقة الانزلاق نحو أكثر من حافة للخطر، واستطاعت القاهرة أن تتصدى للعديد من محاولات «المقامرة» بمصائر شعوب المنطقة، عبر التصدى لأكثر من «مؤامرة» تتعلق بإشعال الفتن أو تأجيج الخلافات بين العواصم العربية، أو اختلاق ظروف تقود إلى مواجهات عبثية لا تقود سوى إلى تفتيت الصف وتفكيك ما تبقى من حد أدنى من تضامن عربى.
ولعل الأداء القيادى المصرى الذى سيخلده التاريخ فى إدارة المشهد الإقليمى فى أعقاب انفجار «7 أكتوبر 2023» يقدم دليلاً دامغًا ورصيدًا متجددًا لقدرة مصر على تحقيق اتزان استراتيجى وتوازن دقيق بين المصالح الوطنية، التى لا ينبغى إغفالها بل يجب احترامها وتقديرها لكل دولة من دول المنطقة، وبين المصالح القومية والاعتبارات الجماعية التى لا ينبغى أيضًا أن تغيب فى ذروة الهلع الذى يجتاح الإقليم، فالحلول المنفردة -فى تقديرى- لا تقود سوى إلى التشتت، بل تسهم فى إضعاف كل الأطراف، وهو ما يخدم المتربصين بالمنطقة من داخلها وخارجها، لأنه يلتهم وزن الكتلة الجماعية للدول العربية مجتمعة، ويجعل المقارنة الفردية دائمًا فى غير صالحنا.
■ ■ ■
استطاعت الدولة المصرية وقيادتها أن تقدم منهجًا يقوم على حل الأزمات الإقليمية، دون أن تتورط فيها، وهو درس مهم يراعى الاعتبارات الوطنية ويُعلى من قيمة الأمن القومى المصرى، لكنها فى الوقت ذاته لم تفرط فى أى لحظة فى ثوابت الأمن القومى العربى، فحذرت من خطورة التهديدات المحيطة بالمنطقة، وعلى الأخص بالقضية الفلسطينية، وكشفت مبكرًا مخططات تهجير الفلسطينيين كوسيلة لتصفية قضيتهم، وعملت على استخدام كل الأدوات المتاحة -ماديًا ومعنويًا- لدعم صمود الأشقاء الفلسطينيين على أراضيهم.
كما استثمرت شبكة العلاقات الإقليمية والدولية الواسعة التى تمتلكها فى بناء جبهة عالمية رافضة لمخططات تصفية القضية، وهو ما كان له أبلغ الأثر فى تفويت الفرصة أمام الاحتلال الإسرائيلى لتمرير تلك المخططات، واضطر إلى كشف مخططاته علانية وبصورة فجة وغير مسبوقة لمواجهة تلك الجبهة العالمية، الأمر الذى زاد من عزلة حكومة التطرف الإسرائيلية على المستوى الدولى وفاقم من أزمتها الداخلية، بعد افتضاح زيف كل الذرائع التى ساقها بنيامين نتنياهو وحكومته لتبرير حرب الإبادة الجماعية، واصطناع مبررات واهية لإطالة أمد الحرب بأية صورة، ليعترف مؤخرًا بأن التهجير هو هدفه الاستراتيجى الذى فشل فى تنفيذه، لكنه يرفض فى الوقت ذاته التنازل عنه!!
مصر لم تكتف فقط بالتحركات الدبلوماسية، بل قدمت الحلول والمسارات العملية التى تكفل استعادة الهدوء الإقليمى، سواء عبر الإصرار على إدخال المساعدات للشعب الفلسطينى الأعزل، ليس فقط كحق إنسانى له، بل كواجب قومى وإنسانى كذلك وكوسيلة لدعم صموده على أرضه، وكانت هى الطرف الأهم والأبرز فى قيادة جهود الهدنة.
وعندما زعم أنصار مخطط التهجير أنه لا يوجد حل للأزمة سوى خروج الفلسطينيين من أراضيهم، قدمت مصر حلاً يجسد قدرة مؤسسات الدولة المصرية على الأداء فى مواجهة الأزمات، وطرحت رؤية متكاملة لإعادة إعمار قطاع غزة دون تهجير سكانه، وهى الرؤية التى حظيت بدعم عربى وإسلامى ودولى واسع، والأهم أنها ملأت فراغًا أراده المتربصون، ووضعتهم أمام مواجهة الحقيقة بأن طرحًا قابلاً للتنفيذ يجهض ذريعتهم بغياب الحلول.
كما أن لدى مصر -بحكم تاريخها وموقعها وموضعها- القدرة على قيادة المشروع العربى استراتيجيًا وسياسيًا واقتصاديًا، والقيادة هنا ليست استعادة لتجارب ماضٍ تدرك مصر قبل أى طرف آخر أنه لا يمكن أن يُستعاد، فعجلة التاريخ لا ترجع إلى الوراء، بل هى قيادة عربية جماعية، تجيد تنسيق الأدوار، وتعزيز المزايا النسبية، وتوظف القدرات الجماعية لبناء عمل عربى منسق قادر على الفعل والإنجاز.
■ ■ ■
قمة بغداد قد تكون بداية لطريق لا يحتمل أنصاف الحلول، فإما تجسيدًا لإدراك جماعى بخطورة الموقف، وبدء مسار لتحرك جاد من أجل بناء رؤية عربية جامعة تقود إلى تبنى مشروع عربى متكامل يزيد من قدراتنا الجماعية على المواجهة، وبالتالى تعظيم فرصنا فى حماية مقدرات شعوب المنطقة العربية، وإما فرصة ضائعة فى وقت لا يحتمل إهدار الفرص، وسيكون حكم التاريخ قاسيًا حقًا على من فرط وتخاذل ونظر تحت قدميه، وأضاع بصيص نور كان من الممكن أن يتصدى لظلام الفوضى والتفكك التى يريدوننا أن نتخبط فيها.