الخنوع العربي والصمود المصري

بقلم: ناصر السلاموني
مصر قلعة صامدة تتحطم عليها أحلام الغزاة والخونة
أقولها بكل فخر، فأنا أفتخر اليوم بأنني مصري في زمنٍ تحوّلت فيه الكرامة العربية إلى سلعةٍ رخيصة في أسواق السياسة الدولية.
انعقدت القمة العربية الرابعة والثلاثون في بغداد، وسط مشهدٍ عبثي تتقاسمه التهديدات الأمنية، والتجاذبات الجيوسياسية، والانهيارات الاقتصادية. قمة جاءت لتؤكد ما لم يعد خافيًا: أن القرار العربي لم يعد عربيًا، وأن إسرائيل هي من ترسم حدود الحركة لمن يدّعون أنهم ملوك وأمراء وزعماء، وتنفذها القوة الأمريكية، وتحدد سقف الطموحات العربية.
لقد بات واضحًا أن الحضور العربي – رغم كل الخطب الرنّانة – خاضعٌ بالكامل لوصاية البيت الأبيض، حليف إسرائيل الأول. فكيف نفهم حضور خمسة من بين اثنين وعشرين زعيمًا لمناقشة مأساة فلسطين، وقد غاب الباقي متعمدًا؟ وكيف نفسر انسحاب حاكم قطر بعد حضوره دون أن يُلقي كلمته؟
أليس هؤلاء هم أنفسهم من فتحوا بلادهم واستقبلوا ترامب وكأنه الخليفة الإسلامي؟! وهم يتأكدون أنه السبب الرئيسي في إبادة الفلسطينيين واستمرار الحرب ؛ومفتاحها بيده .
غابوا تنفيذاً لتعليمات حماتهم .غابوا مهرولين طاعة للعدو الصهيوني، وفتحوا أبواب عواصمهم لوزرائهم وجواسيسهم وجيوشهم، وباعوا دماء الشهداء بثمنٍ بخس في سوق الولاءات؟!
هل ننتظر من هؤلاء إقامة السوق العربية المشتركة، أو الجيش العربي الموحد، وهم الذين رشّوا ترامب في زيارته الأخيرة بالمليارات لحمايتهم؟
نعم، لن ننسى كلماته حين قالها صراحة:
“لقد أخذت من الخليج مئات المليارات… هم لا يستطيعون البقاء أسبوعًا دون حمايتنا”.
كلمات لم تُكذّب، بل جرى تأكيدها بتمويل القواعد العسكرية الأمريكية في كل دول الخليج، إلى منح السعودية الاقتصاد الأمريكي وحده أكثر من 2 مليون فرصة عمل بأمريكا، كما صرّح ابن سلمان، في الوقت الذي تتضور فيه الشعوب العربية جوعًا وبطالة، وتُسحق تحت عبء القهر واستعباد من يذهب للعمل في بلادهم.
لا ننسى عزل مصر من جامعة الدول العربية في عام 1979، وذلك بعد توقيعها اتفاقية “كامب ديفيد” في عام 1978. وقد اعتبرت الدول العربية هذه الخطوة خروجًا عن الإجماع العربي وخيانة للقضية الفلسطينية، بالرغم من أن العبقري السادات فتح لهم الطريق للحصول على حقوقهم كاملة. ولنتذكر أن الدول التي قادت الهجوم السياسي ضد مصر واتهمتها بالخيانة كانت على رأسها: العراق، وليبيا، وسوريا، والجزائر. وهذه الدول شكّلت جبهة الرفض العربية، التي عارضت اتفاقية السلام مع إسرائيل وطالبت بعزل مصر من الجامعة. ونُقلت جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس في عام 1979، وتم تجميد عضوية مصر في الجامعة.
وعادت الجامعة العربية إلى القاهرة عام 1990، أما مصر فعادت إلى الجامعة العربية رسميًا عام 1989 .
مصر لا تنسى ما فعله المنبطحين الراكعين، بل تذكرهم فقط.
ونأتي الآن إلى لحظةٍ يسجّل فيها التاريخ أسوأ الجرائم الصهيونية في غزة والضفة، فنرى بعض الدول العربية التي قادت الهجوم على مصر في السابق هي نفسها تنخرط في تبادلات تجارية مع إسرائيل ! فأيُّ عارٍ أكبر من أن تستورد الأمة سلاحها من أعدائها؟ أيُّ خنوعٍ أكبر من أن تُموَّل آلة القتل التي تحصد أرواح الأبرياء في فلسطين؟!
الإمارات تصدّر التكنولوجيا والتمويل لمشاريع صهيونية، والأردن يعزّز التعاون الأمني، والكويت وعُمان يفتحان قنوات اقتصادية مغلّفة.
وأيُّ ذلٍّ بعد منح الجنسية المغربية والخليجية لليهود، ليصبحوا “عربًا” يتحركون في البلاد، ويتقلدون المناصب القيادية فيها؟!
أيُّ ذلٍّ، وأيُّ عار، حين يقوم العرب بتغيير المناهج الدراسية العربية؛ إذ تُمحى الآيات القرآنية والجهاد والغزوات وتاريخ فلسطين، وتُطمس جرائم الاحتلال، ويُستبدل سرد النكبة بأساطير “السلام”!
أصبح الطفل الخليجي يُربّى على احترام المحتل والترحيب به، وفي المقابل، يُلقَّن أطفال إسرائيل يوميًا كراهية العرب، ويُحرَّضون على ازدرائهم وقتلهم… وما النشيد الوطني لهم ببعيد!
أيُّ ذل، وأيُّ عار، تقوم بعض دول الخليج بالتعامل اقتصاديا وشراء الأصول في البلاد العربية نيابة عن إسرائيل، استعدادًا ليوم قادم يعدون له ؛أدعو الله أن يكون أسود عليهم كقلوبهم.
يتحدثون عن إعادة الإعمار في اليمن وسوريا وليبيا، وهم من مزّق تلك الدول عبر بالتعاون مع إسرائيل وأمريكيا!
لا أجد لغياب رؤساء وملوك وأمراء جزيرة العرب إلا استجابة لمخطط إسرائيلي أمريكي تنفيذاً لظهور الشطر الأول من إسرائيل الكبرى، حيث قسّم خائن سوريا وطنه، وأباح اللبناني أرضه وعرضه لإسرائيل، وامتلأت دول الخليج بالقواعد الصهيوأمريكية، ودُمّر اليمن بخطة ممنهجة. ولم تبقَ إلا مصر ليكتمل مخططهم، فحاصروها بتقسيم وإشعال السودان وليبيا، وتهديد الملاحة في البحر الأحمر، و تمويل سد النهضة في إثيوبيا. ولكن سوف يأتي الله بهم وبمن عاونهم لفيفًا، ويتم القضاء عليهم، ويصاب كل خائن عربي يومها بالخزي والعار.
الطريق واضح إن أراد العرب أن يستردوا كرامتهم إن كانت لديهم بقية منها:
قطع العلاقات مع إسرائيل وكل الدول التي تساعدها.
تجميد التعاون العسكري مع واشنطن.
وقف التبادل التجاري مع الكيان الغاصب ومن يساعده.
إعادة كتابة المناهج بعقل مقاوم وذاكرة حرة.
الخروج من عباءة الوصاية الأمريكية.
ما زالت بعض الشعوب العربية تملك صوتًا حرًا، وقلبًا نابضًا، وضميرًا حيًّا لا تُخدّره صفقات السلاح، ولا تُسكته مليارات التطبيع.فإما أن تعود الأمة لأصالتها، أو تستعد للأجيال القادمة -إن بقيت منهم اجيال ـ التي ستسأل: “لماذا بعتم الأرض والشرف؟”
وفي خضم هذه التنازلات، ما زالت مصر ورئيسها شرفًا لكل عربي.الكل هرب وباع، ومصر صخرة تتحطم عليها أحلام الغزاة والخونة.