دينا كرم الدين تكتب: توقيع واحد يكفي لقتل ألف فكرة

 

حين يتنفس الفساد لا يصدر صوتاً بل يغيب ضميرًا. حين تمنح المكاتب لابالكفاءة بل بالمجاملة.وتمنح الصلاحيات لا للمستحق بل لمن يعرف من يعرف. حين تمنح المسؤولية كهدية لا كأمانة. فإننا لا نعيش مؤسسات بل نؤسس للتآكل البطيء من الداخل. هنا لا يُقاس الأداء بالنتائج بل بالولاء. ولا يقاس الجهد بالحضور بل بالمحاباة. هنا يخسر الناس فرصهم لا لأنهم فشلوا. بل لأن مزاج موظف ما لم يرتح لهم. أو لأنهم لم يأتوا بتوصية من أحد. أو ببساطة لأن النظام يسمح بذلك ويصمت.
في هذه اللحظة تحديدًا لا يعود الخطر سياسيًا ولا اقتصاديًا. بل إنسانيًا بالكامل. لأننا أمام تركيبة معقدة من النفوذ الضعيف المغلف بالقانون. ومن القرارات المؤجلة التي تُزهق فرصًا. ومن بشرٍ تفرم أحلامهم في دواليب ورقية لا تنتهي.
تخيل أن مشروعًا بملايين الجنيهات يتعطل لأن ورقة لم توقع . أن مستثمرًا يغادر لأن الرد لم يصله. أن شابًا يفقد حلمه لأن الوظيفة ذهبت لمن لا يملك منها إلا الاسم. أن المصلحة العامة أصبحت مصطلحًا يُردد ولا يُحترم. أن النجاح أصبح مرهونًا بمكالمة لا بكفاءة.
نحن لا نهاجم السلطة.
بل نحميها من الذين يُسيئون إليها بأسمائها. لأن الفساد لا يسكن في القوانين. بل في الأشخاص الذين يملكون صلاحية التعطيل. ويستخدمونها كأنها أداة نفوذ. لا كأداة تنظيم.
هؤلاء لا يرتكبون جرائم واضحة. بل يزرعون الإحباط كأنه إجراء. ويبنون حول الكفاءة سورًا من الاستفهامات. ويقتلون الحلم بألف لائحة وتوقيع.
هؤلاء ليسوا مسؤولين. بل هم ثغرات بشرية في جسد الدولة. هشّة في قراراتها. عنيفة في ردودها. جبانة في تقييمها. سريعة في الإقصاء. بطيئة في الاعتراف.
وما لا يُقال أكثر مما يُرى. فالمصيبة أن الخسائر في هذا النوع من الفساد لا تُحسب بالمال. بل بالأمل المهدور. وبالعمر الذي يُستهلك. وبالكفاءات التي تُطرد من الوطن وهي بداخله.
لذلك فإن السؤال الأهم لم يعد هل لدينا أنظمة جيدة. بل هل لدينا من يُحسن استخدامها. هل نملك الوعي قبل الأدوات. هل نراجع البذرة قبل أن نلوم الشجرة. هل نفهم أن كل مصلحة تُعطل. هي شريان حياة يُقطع عن الناس.
إن التخبط الإجرائي ليس سوء تفاهم. بل كارثة متكررة. وإن تعطيل الإجراءات ليس خطأ إداريًا. بل جريمة مؤجلة التأثير. وكل من تسبب في ضياع فرصة. يجب أن يُسأل ليس قانونيًا فقط بل إنسانيًا وأخلاقيًا.
الموظف الذي يُرهق الناس دون سبب. والمسؤول الذي يؤخر الرد بلا مبرر. والإداري الذي يضع العراقيل لا الحلول. كلهم شركاء في قتل المصلحة العامة. وهم السبب في أن تبدو الدول أضعف مما هي عليه فعلاً.
إن الإصلاح لا يبدأ من القوانين. بل من إعادة تعريف كلمة مسؤول. من فهم أن الوظيفة ليست حصانة بل تكليف. وأن كل تأخير جريمة. وكل مماطلة خيانة للصالح العام.
حين تتراكم الأخطاء الصغيرة بصمت. وتُؤجل القرارات بحجج هشة. وتُكتم الأصوات الواعية باسم الإجراءات. يولد الفشل الإداري بثوب رسمي. ويدفن النجاح في أرشيف الانتظار.
‏اللهم
‏اللهم قد بلغت اللهم فاشهد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى