الهوية العربية في مواجهة اللغات الأجنبية.. قراءة في التجربتين المصرية والمغربية

 

بقلم – هند الصنعاني

في العالم العربي، تشغل اللغات الأجنبية مكانة معقدة تتأرجح بين الضرورة العملية والبعد الثقافي، فبينما تستخدم هذه اللغات كوسيلة للتواصل الأكاديمي والانفتاح على العالم، فإنها في ذات الوقت تعكس آثاراً تاريخية للاستعمار لا تزال حاضرة حتى اليوم. النموذجان المصري والمغربي يقدمان صورتين مختلفتين لهذه العلاقة، تكشفان كيف تتقاطع السياسة مع اللغة والثقافة والهوية.

في مصر، وعلى الرغم من الحقبة الاستعمارية البريطانية التي امتدت لأكثر من سبعين عاماً، لم تترسخ اللغة الإنجليزية في وجدان المجتمع بنفس العمق الذي فعلته الفرنسية في المغرب، يعود ذلك إلى عدة عوامل، منها أن البريطانيين في مصر لم يسعوا لفرض لغتهم كلغة رسمية في الإدارة والتعليم بشكل منهجي، بل أبقوا على اللغة العربية في مجالات كثيرة، كما لعبت النخبة الثقافية في مصر دوراً كبيراً في تعزيز اللغة العربية كلغة أدب وفكر وصحافة، الأمر الذي رسخ مكانتها في الوعي العام، وجعلها رمزاً للهوية الوطنية، لا سيما مع تزامن مرحلة الاستعمار مع نشوء الحركات القومية العربية.

أما المغرب، فقد عاش تجربة مختلفة تركت بصمة لغوية أوضح، فالفرنسية، على وجه الخصوص، أصبحت لغة الإدارة والتعليم العالي والاقتصاد بعد الاستقلال، ولا تزال تحظى بمكانة واسعة في المجتمع المغربي، إلا أن هذا الحضور القوي للفرنسية لم يأتِ على حساب اللغة العربية بشكل مطلق، فالمغاربة يظهرون تمسكاً واضحاً بالعربية الفصحى، بوصفها لغة الهوية والانتماء والحضارة الإسلامية، فضلاً عن كونها اللغة الرسمية الأولى للبلاد، هذا التمسك لا يتجلى فقط في السياسات اللغوية الرسمية، بل أيضاً في الخطاب الثقافي والديني، والإنتاج الأدبي، والبرامج التعليمية التي تدرّس باللغة العربية في مختلف المراحل الدراسية، بل ويمكن القول إن الثنائية اللغوية في المغرب تحولت إلى نوع من التعايش الذي يعبّر عن تعددية ثقافية، دون أن يعني تراجع مكانة العربية.

إلى جانب الفرنسية، تلعب اللغة الإسبانية دوراً محورياً في مناطق الشمال المغربي، ما يجعل المغرب حالة فريدة في العالم العربي من حيث التعدد اللغوي، إذ يتفاعل المواطن المغربي يومياً مع عدة لغات ولهجات أبرزها العربية الفصحى، الدارجة المغربية، والأمازيغية، إلى جانب الفرنسية أو الإسبانية.

هذه الديناميكية اللغوية في المغرب لا تنفي وجود نقاشات حادة حول “الفرنسة” والهوية، خاصةً مع تزايد الاعتماد على الفرنسية في التعليم الجامعي والعلمي، وهو ما يثير تساؤلات حول مستقبل اللغة العربية في ظل هيمنة اللغات الأجنبية في بعض القطاعات، لكن يظل الثابت أن اللغة العربية، في كل من مصر والمغرب، لم تفقد مكانتها كلغة جامعة، بل ظلت ركيزة للهوية الوطنية والدينية والثقافية.

اللغة الأجنبية في السياق العربي ليست مجرد أداة تواصل، بل هي مرآة لتاريخ طويل من الصراع والتأقلم، وبينما تسعى الدول العربية اليوم لإعادة التوازن بين التحديث اللغوي والحفاظ على التراث، تبرز أهمية السياسات التعليمية والثقافية في ترسيخ اللغة الأم دون الانغلاق عن العالم.

*كاتبة وإعلامية مغربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى