الاعلامية سفانة الديب تكتب لموقع “مدن”: ترامب بين التراجع والمرونة .. ضعفٌ أم حكمة؟

في السياسة ، كما في لعبة الشطرنج ، لا تُقاس الخطوة بقوتها فقط ، بل بتوقيت تنفيذها ، وهذا ما يفعله اليوم دونالد ترامب ، الرجل المثير للجدل ، حيث تستمر سياساته في إثارة الجدل والاهتمام ، سواء بين مؤيديه الذين يرون فيها إحياءً للقوة الأمريكية ، أو بين معارضيه الذين يرونها تهديدًا للاستقرار العالمي .
ما يميز رئاسة ترامب ، في طابعها الغريب والمتقلب ، هو قدرتها على الجمع بين التراجع و المرونة في آن واحد ، و أنها في ظاهرها تبدو متناقضة ، لكنها بالوقت نفسه تعكس حقيقة عميقة عن طريقة التعامل مع التحديات السياسية في عالم متغيّر .
في أول مئة يوم من تحركاته السياسية الجديدة ، بدا ترامب وكأنه يسير على خيط مشدود ، بين صورته القديمة ك ” مشاغب سياسي ” وصورته الجديدة الأكثر تلوّناً .. مرن حين يحتاج ، متراجع حين يلزم .
في سياق السياسة الدولية والمحلية يُفهم هذا التراجع أنه علامة على الضعف أو الهزيمة كما يقول البعض ، ولكن آخرون يرون أنه في حالة ترامب ، يمكن أن يكون هذا التراجع في بعض الأحيان استراتيجية محكمة تهدف إلى الحفاظ على مكاسب أكبر أو لتكييف السياسات مع الواقع المتغير. على سبيل المثال ، بينما كانت التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على الصين في البداية خطوة متشددة لفرض الهيمنة الاقتصادية ، فإن التراجع عنها أو تعديلها لاحقًا كان دليلاً على إدراكه للعواقب الاقتصادية على المستوى الداخلي . لم يكن هذا التراجع هروبًا ، بل إعادة ضبط للاستراتيجية لتحقيق أهدافه الكبرى ، مع الحفاظ على التوازن .
وفي السياسة الخارجية، لم يكن أقل من ذلك. عند بداية ولايته ، اتخذ ترامب مواقف هجومية تجاه الحلفاء التقليديين، مثل حلف الناتو، منتقدًا الالتزامات المالية لهذه الدول. لكن مع مرور الوقت ، بدأ التراجع عن تلك التصريحات الصارمة ، وهو ما يُظهر قدرته على إعادة تقييم العلاقات الدولية حسب مصلحة أمريكا.
قد يبدو هذا تذبذبًا في المواقف ، ولكن يمكن اعتباره خطوة تكتيكية لضمان مكانة أمريكا في النظام الدولي .
في المقابل ، تُظهر المرونة في سياسته قدرة على التكيف السريع مع المتغيرات الجذرية ، سواء في الداخل الأمريكي أو في العلاقات الدولية.
ففي ملف الهجرة ، في بداية ولايته شهدنا سياسات صارمة تهدف إلى تقليص أعداد المهاجرين ، وهو ما كان يهدف إلى تلبية احتياجات قاعدة داعمة له. ولكن في وقت لاحق ، بدأ يظهر نوع من المرونة في تطبيق هذه السياسات ، خاصة فيما يتعلق بإعادة تأشيرات الطلاب الدوليين وتغيير بعض الإجراءات لصالح الاقتصاد الأمريكي.
وبهذا الإطارإذا كان التراجع نتيجة لضغوط اقتصادية أو سياسية ، فإن المرونة تمثل فهمًا عميقًا لما تتطلبه اللحظة التاريخية .
داخلياً ، التيار الترامبي داخل الحزب الجمهوري ليس راضيًا بالكامل ، فبينما كان أنصاره يفاخرون بصراحته الجارحة ، وبأسلوبه الذي لا يخضع لقواعد اللعبة التقليدية ، وجدوا أنفسهم اليوم أمام ترامب جديد ، يتراجع ، يصحّح ، ويُعيد الحسابات .
هذا التراجع فسّره خصومه بأنه دليل على فقدان الزخم ، بل محاولة يائسة لاستعادة موقعه في مشهد سياسي تغيّر كثيرًا. أما الإعلام ، فلم يتردد في وصمه بالازدواجية، مشيرًا إلى أن الترامبية القديمة لم تعد تقنع الشارع كما في السابق .
لكن إذا تعمّقنا في الصورة أكثر، نجد أن بين التراجع والحكمة ، مساحة رمادية يسكنها من يعرف أن السياسة ليست لعبة عضلات فقط . ترامب الذي خبر قسوة الهزيمة في انتخابات 2020 م ، يبدو أنه أدرك أن عودته تتطلب أدوات جديدة.
لا يكفي أن تصرخ لتُسمع ، بل أن تختار متى تصمت لتُحسب خطواتك .
إنها براعة لاعب الشطرنج لا المصارع، وربما هذه المرة ، ترامب لا يريد أن يربح الجولة بصخب ، بل أن ينتصر في النهاية بهدوء .
ما بين التراجع والتكتيك، وبين الضعف والدهاء، تبقى شخصية ترامب لغزًا سياسيًا مفتوحًا على كل الاحتمالات . لكن المؤكد أن الرجل ” سواء أحببته أم كرهته ” لا يزال يحترف إثارة الجدل… وبطريقته .