سبت النور وكُحل العين… تقليد مصري قديم يُضيء العيون والقلوب

بقلم الكاتبة الصحفيةً : نهلة سليم

في كل عام، ومع اقتراب عيد القيامة المجيد، يحتفل المصريون جميعًا – مسيحيون ومسلمون – بيوم مميز يحمل طابعًا روحيًا وثقافيًا فريدًا، يُعرف بـ “سبت النور”. هذا اليوم ليس مجرد مناسبة دينية تخص طائفة بعينها، بل هو موروث شعبي مصري أصيل، يحمل في طياته عادات ضاربة في جذور التاريخ، ويتقاطع فيه البُعد الروحي مع الممارسات اليومية والعادات الصحية المتوارثة.

“سبت النور” بين الدين والتاريخ
يُعرف “سبت النور” في المسيحية بأنه اليوم الذي يفصل بين صلب السيد المسيح وقيامته، ويُطلق عليه أيضًا “السبت المقدس”، وهو يوم التأمل والصمت. وفي طقوس الكنائس الشرقية، يُحتفل فيه بظهور “النور المقدس” من قبر السيد المسيح في كنيسة القيامة بالقدس – وهي معجزة يترقبها ملايين المؤمنين كل عام.

لكن في مصر، تجاوز سبت النور طابعه الكنسي، ليُصبح مناسبة شعبية وثقافية تُمارس فيها طقوس فريدة، يتوارثها المصريون جيلًا بعد جيل، بغضّ النظر عن معتقداتهم. واحدة من أقدم هذه الطقوس وأكثرها شيوعًا هي عادة تكحيل العيون بالكحل الطبيعي، في هذا اليوم تحديدًا.

الكُحل في سبت النور… بين الجمال والحماية
في القرى والمدن المصرية، ما زالت الأمهات والجدّات حتى يومنا هذا يحرصن على تكحيل أعين الأطفال والشباب في صباح سبت النور. تقول الروايات الشعبية إن هذا الكحل يُضفي “نورًا” على العينين يستمر طوال العام، لكن خلف هذه الممارسة هناك جذور طبية وثقافية قديمة.

فالمصري القديم كان أول من استخدم الكحل، ليس فقط لأسباب جمالية، بل لأغراض صحية أيضًا. كان يُصنّع الكحل من المواد الطبيعية مثل “المرمر” و”الغالينا” (كبريتيد الرصاص الطبيعي)، وكان يُستخدم لحماية العين من أشعة الشمس القوية، والغبار، والحشرات، وحتى من الأرواح الشريرة بحسب المعتقدات الفرعونية.

وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن بعض أنواع الكحل التقليدي تحتوي بالفعل على مركبات تساعد على مقاومة البكتيريا وحماية العين من الالتهابات، خاصة في أوقات تغيّر الفصول، كفصل الربيع، حين تنتشر الأتربة وحبوب اللقاح.

الاحتفال بالكحل… رمزية النور في عين مصرية
تكحيل العين في سبت النور لا يعني فقط العناية بالبصر، بل هو طقس رمزي يحمل معنى الحماية والبصيرة والنور الداخلي. ويبدو أن القدماء قد ربطوا بين “النور” الذي يخرج من القبر المقدس و”نور العين” الذي يجب أن يُصان ويحفظ من كل سوء. ولهذا، سمّوا هذا اليوم بـ”سبت النور” وجعلوه يومًا لتجديد الحماية والنقاء.

الهوية المصرية تتجلى في التفاصيل الصغيرة
ما يجعل هذه العادة تستحق التقدير هو أنها تجسيد حي لما يُعرف بـ”الهوية الثقافية المتداخلة” – حيث تتلاقى الرموز الدينية مع الطقوس الاجتماعية، ويصبح اليوم المقدس مناسبة للوحدة، لا للفرقة. فتجد المسلم والمسيحي في الريف أو المدينة، يكحل عينيه أو عيني أبنائه في سبت النور، دون أن يتساءل عن أصل العقيدة، بل عن جمال العادة ودفئها.

حان الوقت لنُحيي ما تركه لنا الأجداد
وسط زحام الحياة الحديثة وغياب كثير من العادات الجميلة، من المهم أن نُعيد إحياء هذه الطقوس التي تُشكل جزءًا من التراث غير المادي المصري. فعادة تكحيل العين في سبت النور، رغم بساطتها، تحمل رسالة عميقة عن النور، والتجدد، والوقاية، والهوية المشتركة.

دعونا لا نُفرّط فيما تركه لنا الأجداد.
فلنكحل أعيننا… ولتبقَ مصر دائمًا في عيوننا منوّرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى