دينا كرم الدين تكتب لـ “مدن “:  ويبقى الأثر

في كل أمة حكاية .وفي كل حكاية أثر .وفي كل أثر روح لا تموت ..قد تسقط الدول.. قد يزيف التاريخ ..قد يعلو الكذب ويصفق له المنافقون… لكن الأثر لا يزيف ولا يشترى ولا يدفن…حين نتأمل خريطة العالم اليوم لا ندهش من تفوق دول كانت بالأمس القريب تحت وطأة الفقر ..أو آثار الحروب .بل ندهش من تراجع دول كانت مراكز إشعاع إنساني ..وحضاري وديني وثقافي منذ آلاف السنين .
ندهش من أن تدار ملفات الحداثة اليوم من عواصم كانت مجرد هامش على أطراف التاريخ …بينما العواصم التي أنجبت الفلسفة والشريعة واللغة والطب والموسيقى غارقة في جدل الهوية والصراعات الداخلية ..كأننا بتنا عاجزين عن تصديق أننا كنا مصدر النور فصرنا نناقش ما كنا نعلمه لغيرنا كما لو كنا غرباء عنه..
ويبقى السؤال الحقيقي ماذا حدث؟ ومتى بدأ الانهيار؟وهل نحن فقط من لم نر الأثر أم أن الأثر تم محوه عمدًا؟
حين نقرأ عن قرطبة التي كانت تضيئ شوارعها بالمصابيح ..وبينما عواصم أوروبا تغرق في ظلام القرون الوسطى.. حين نعرف أن بغداد كانت بها مكتبة تضم أكثر من مليون مخطوطة قبل أن تحرق في لحظة غزو وجبن ..وحين نكتشف أن الجامع الأزهر أسس قبل بعض أعرق جامعات الغرب ..
وحين نعلم أن أول بيت مال عرفه التاريخ وجد في المدينة المنورة ..وأن أوائل نظم المحاسبة والتكافل كانت في حضارتنا ..وحين ندرك أن مدارس القاهرة القديمة سبقت فكرة التعليم المجاني بمئات السنين ..وحين نعرف أن نظام الوقف الذي أنتج جامعات ومستشفيات ومكتبات ومستودعات للكتب والعلم لم يكن اختراعًا غربيًا.. بل تراثًا عربيا حضاريًا خالصًا خرج من هنا.
وحين نرى اليوم دولًا قامت من تحت الرماد .مثل (ألمانيا ) (واليابان ) وكيف استعادت هويتها وقيمها دون أن تنكر خطاياها.. وكيف أعلت من شأن التعليم والبحث العلمي والثقافة باعتبارها أعمدة البقاء ..لا رفاهية المؤسسات وحين نرى (كوريا الجنوبية ) خلال خمسين عامًا تنتقل من بلد يعتمد على المعونات إلى واحدة من أقوى الاقتصاديات وأكثرها تأثيرًا ثقافيًا وتقنيًا في العالم..
ثم ننظر حولنا فنجد أن معظم العواصم العربية لا تزال تتعامل مع الثقافة باعتبارها هامشًا لا أصلًا …ومع التعليم باعتباره بابًا للوظيفة لا للمعرفة.. ومع الدين باعتباره شعارًا لا منظومة وقيم واجبه فنعرف يقينًا أن الأثر لم يمحى فقط بل تم تحجيمه وتشويهه وتحويله إلى أيقونة للتغني للماضى والحنين فقط دون أي محاولة لاستعادته:
ويبقى الأثر إذًا ليس فقط في ما أنجزناه ..بل في ما فرطنا فيه… ويبقى الأثر ..في المؤسسات التي بُنيت ثم تحولت إلى إدارات خاوية على عروشها ..في الثروات التي أهدرت..
وفي الفرص التي دفناها بأيدينا وفي النخب التي سحقت ..أو هاجرت ..أو صمتت… ويبقى الأثر في الأجيال التي كبرت وهي تسمع عن أمجاد لم تراها.. وعن حضارات لم تتعلم منها إلا الحنين .. ويبقى الأثر فى قرار سياسي غير شكل وطن ..وفى أثر لوحة فنية اتحرقت ولكنها خلدت في ذاكرة شعب..و أثر أغنية كانت ممنوعة وباتت اليوم نشيد ثوري
ويبقى الأثر.. في جرح الإنسان العربي الذي كان يمكن أن يكون باحثًا عالميًا لكنه تعلم أن الشهادة هدف لا وسيلة..
في الشاب الذي كان يمكن أن يكون مخرجًا كبيرًا لكنه تعلم أن الإبداع خطر… وفي الفتاة التي كادت أن تكون عالمة لكن المجتمع أقنعها أن عقلها زينة مؤقتة لا مشروع حياة ويبقى الأثر.. في اللاشيء.. وفي الصمت وفي المقارنة المره بين ما كنا عليه وما صرنا إليه..
ويبقى الأثر أيضًا في ما لم يذكر في الكتب ..وفي الكلمات التي لم تنشر في المسودات التي تمزقت في أصوات الناس التي لا تصل الشاشات.. ولا تدعى إلى المؤتمرات… لكنها تحمل في داخلها ذاكرة عظيمة تنزف كل يوم ..ويبقى الأثر في نظرة ألم من عجوز يقرأ الجريدة ولا يجد فيها سوى صور النجوم وسعر الدولار …ويبقى الأثر .في الشعور الوطني المكسور في كل مرة تقارن فيها بين طائرة تقلع من دبي وأخرى تهبط في مطار يعاني من سوء الخدمة …
ويبقى الأثر ..بين جامعة فيها خمسين لغة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وبين أخرى لا يوجد بها كتب كافية للمناهج الأساسية ويبقى الأثر في السؤال المرير الذي لا يقال لكن يحس لماذا ؟!!
لماذا لم نكن نحن من يقود العالم ونحن من بدأ النور؟ ولماذا تحولنا من منارات إلى مشاهد قديمة في كتب التاريخ؟ وهل ما زال هناك وقت لاستعادة هذا الأثر أم أن الأثر أصبح عزاء قصرٍ مهيب اندثر دون أثر لأن أصحابه لم يحملوا شيئًا سوى الألقاب
الأمم لا تقاس بطول أعلامها… بل بطول ظلالها حين يغيب الضوء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى